وبعد أن بين الله تعالى هذه المرتبة العليا للمؤمنين التي ينبغي أن تكون لهم في حال القوة وهو ما يسمى بالعزيمة ، قفى عليه ببيان ما دونها من مرتبة الضعف وهي ما يسمى الرخصة ، فقال:
{ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين} قرأ الجمهور ضعفا بضم الضاد وعاصم وحمزة بفتحها على أنه مصدر وعن الخليل أن الضم لما كان في البدن والفتح لما كان في الرأي والعقل أو النفس .وقرأ أبو جعفر ( وعلم أن فيكم ضعفاء ) جمع ضعيف ، وقد تقدم بيان حال ضعفاء المسلمين الذين كانوا يكرهون القتال في بدر وهم الذين نزل فيهم قوله تعالى في هذه السورة:{ يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون} [ الأنفال:6] فالضعف على هذا عام يشمل المادي والمعنوي ، والمعنى أن أقل حالة المؤمنين مع الكفار في القتال أن ترجح المائة منهم على المائتين والألف على الألفين ، وأن هذه الحالة رخصة خاصة بحال الضعف ، كما كان عليه المؤمنون في الوقت الذي نزلت فيه هذه الآيات وهو وقت غزوة بدر .
فقد تقدم أن المؤمنين كانوا لا يجدون ما يكفيهم من القوت ، ولم يكن لديهم إلا فرس واحد ، وأنهم خرجوا بقصد لقاء العير غير مستعدين للحرب ، ومع هذا كله كانوا أقل من ثلث المشركين الكاملي العدة والأهبة .ولما كملت للمؤمنين القوة ، كما أمرهم الله تعالى أن يكونوا في حال العزيمةكانوا يقاتلون عشرة أضعافهم أو أكثر وينتصرون عليهم ، وهل تم لهم فتح ممالك الروم والفرس وغيرهم إلا بذلك ؟ وكان القدوة الأولى في ذلك أصحاب رسول الله ( صلوات الله وسلامه عليهم ) في عهده ومن بعده! كان الجيش الذي بعثه صلى الله عليه وسلم إلى مؤتة من مشارف الشام للقصاص ممن قتلوا رسوله ( الحارث بن عمير الأزدي ) إلى أمير بصرى ثلاثة آلاف ، وأقل ما روي في عدد الجيش الذي قاتلهم من الروم ومنتصرة العرب مائة وخمسون ألفا ، وروى الواحدي في البسيط أنه كان مائة ألف من الروم ومائة ألف من عرب لخم وجذام ، فمن شك أو شكك في هذين العددين من المسلمين والروم في هذه الغزوة فماذا يقول في وقعة اليرموك الشهيرة ؟
روى المؤرخون أن الجموع التي جمعها هرقل للمعركة الفاصلة فيها بينه وبين العرب من الروم والشام والجزيرة وأرمينية كانت زهاء مائتي ألف وكان يأتيها المدد خشية الهزيمة وكان عدد جيش الصحابة رضي الله عنهم أربعة وعشرين ألفا ، ورووا أن قتلى الروم بلغت سبعين ألفافمن شك أو مارى في العدد في هذه المعركة وغيرها من المعارك ، المعينة فهل يمكنه أن يماري في القدر المشترك في جملة المعارك التي فتح بها الصحابة رضي الله عنهم تلك الممالك الواسعة على قلة عددهم ، وكونهم كانوا في مجموعها أو أكثرها أقل من عشر أعدائهم ؟ أنى وهو عين التواتر المعنوي الذي يفيد علم اليقين ؟
وأما قوله تعالى في تعليل هذا الغلب ( بإذن الله ) فقد فسروه هنا بإرادته ومشيئته تعالى ، وأصل الإذن في اللغة إباحة الشيء والرخصة في فعله ولا سيما إذا كان الشأن فيه أن يكون ممنوعا فيكون حاصل الإذن إزالة المنع وهي إما أن تكون بالقول لمن يقدر على الفعل ، وإما أن تكون بالفعل لمن لا يقدر عليه ، فالإذن من الله تعالى إما أمر تكليف أو إباحة وترخيص ، وهو من متعلق صفة الكلام فالأول كقوله تعالى:{ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} [ الحج:39] وقوله:{ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} [ النساء:64] والثاني كقوله تعالى:{ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه] [ البقرة:255] وقوله:{ يوم يأتي لا تكلم نفس إلا بإذنه} [ هود:105] .
وإما أمر تكوين أي بيان لسنة الله تعالى أو فعله أو تقديره أو إقداره لمن شاء على ما شاء فيكون من متعلق الإرادة ومن متعلق القدرة كقوله تعالى للمسيح عليه السلام{ وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني} [ المائدة:110] وقوله:{ والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه} [ الأعراف:58] أي بقدرته وإرادته وكقوله:{ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} [ البقرة:249] أي بإقداره ومعونته وتوفيقه ، وفي معناها هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها وقد ختم كل منهما بقوله تعالى:{ والله مع الصابرين} وهذه المعية لا ندرك حقيقتها وكنهها وإنما نعلم علم يقين أن من كان الله تعالى معه فهو الغالب المنصور ولن يغلبه أحد ، فنفسرها بمعية المعونة والنصر ، كما تقدم في تفسير مثل هذه الجملة من الآية 46 من هذه السورة في سياق الحرب وغزوة بدر ، وقد أحلت فيه على تفسير مثل تلك الجملة من سورة البقرة وهو قوله:{ يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} [ البقرة:153] وقد قلت هناك:ثم قال:{ إن الله مع الصابرين} ولم يقل معكم ليفيد أن معونته إنما تمدهم إذا صار الصبر وصفا لازما لهم .ومن المفيد أن يراجع القارئ تفسير تلك الآية ( في ج 2 تفسير ) فإنه يفيد في إتمام معنى ما هنا .
/خ66