قال العوفي في تفسيره ، عن ابن عباس في قوله تعالى:( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) وكان حين ذهب ملك سليمان ارتد فئام من الجن والإنس واتبعوا الشهوات ، فلما رجع الله إلى سليمان ملكه ، وقام الناس على الدين كما كان أوان سليمان ، ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه ، وتوفي سليمان ، عليه السلام ، حدثان ذلك ، فظهر الإنس والجن على الكتب بعد وفاة سليمان ، وقالوا:هذا كتاب من الله نزل على سليمان وأخفاه عنا فأخذوا به فجعلوه دينا . فأنزل الله:( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ) واتبعوا الشهوات ، [ أي]:التي كانت [ تتلو الشياطين] وهي المعازف واللعب وكل شيء يصد عن ذكر الله .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال:كان آصف كاتب سليمان ، وكان يعلم الاسم "الأعظم "، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه ، فلما مات سليمان أخرجه الشياطين ، فكتبوا بين كل سطرين سحرا وكفرا ، وقالوا:هذا الذي كان سليمان يعمل بها . قال:فأكفره جهال الناس وسبوه ، ووقف علماؤهم فلم يزل جهالهم يسبونه ، حتى أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم:( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) .
وقال ابن جرير:حدثني أبو السائب سلم بن جنادة السوائي ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال:كان سليمان ، عليه السلام ، إذا أراد أن يدخل الخلاء ، أو يأتي شيئا من نسائه ، أعطى الجرادة وهي امرأة خاتمه . فلما أراد الله أن يبتلي سليمان ، عليه السلام ، بالذي ابتلاه به ، أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه ، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها:هاتي خاتمي . فأخذه فلبسه . فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس . قال:فجاءها سليمان ، فقال:هاتي خاتمي فقالت:كذبت ، لست سليمان . قال:فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به . قال:فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر وكفر . ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ، ثم أخرجوها وقرؤوها على الناس ، وقالوا:إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب . قال:فبرئ الناس من سليمان ، عليه السلام ، وأكفروه حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه:( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا )
ثم قال ابن جرير:حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عمران ، وهو ابن الحارث قال:بينا نحن عند ابن عباس رضي الله عنهما إذ جاء رجل فقال له:من أين جئت ؟ قال:من العراق . قال:من أيه ؟ قال:من الكوفة . قال:فما الخبر ؟ قال:تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم . ففزع ثم قال:ما تقول ؟ لا أبا لك ! لو شعرنا ما نكحنا نساءه ، ولا قسمنا ميراثه ، أما إني سأحدثكم عن ذلك:إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء ، فيجيء أحدهم بكلمة حق قد سمعها ، فإذا جرب منه صدق كذب معها سبعين كذبة ، قال:فتشربها قلوب الناس . فأطلع الله عليها سليمان . عليه السلام ، فدفنها تحت كرسيه . فلما توفي سليمان ، عليه السلام ، قام شيطان الطريق ، فقال:أفلا أدلكم على كنزه الممنع الذي لا كنز له مثله ؟ تحت الكرسي . فأخرجوه ، فقالوا هذا سحره ، فتناسخها الأمم حتى بقاياها ما يتحدث به أهل العراق وأنزل الله عز وجل ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا )
ورواه الحاكم في مستدركه ، عن أبي زكريا العنبري ، عن محمد بن عبد السلام ، عن إسحاق بن إبراهيم ، عن جرير ، به .
وقال السدي في قوله تعالى:( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) أي:على عهد سليمان . قال:كانت الشياطين تصعد إلى السماء ، فتقعد منها مقاعد للسمع ، فيستمعون من كلام الملائكة مما يكون في الأرض من موت أو غيب أو أمر ، فيأتون الكهنة فيخبرونهم . فتحدث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا . حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم . وأدخلوا فيه غيره ، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة ، فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب ، وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب . فبعث سليمان في الناس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق . ثم دفنها تحت كرسيه . ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق . وقال:لا أسمع أحدا يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه . فلما مات سليمان ، عليه السلام ، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان ، وخلف من بعد ذلك خلف تمثل شيطان في صورة إنسان ، ثم أتى نفرا من بني إسرائيل ، فقال لهم:هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا ؟ قالوا:نعم . قال:فاحفروا تحت الكرسي . وذهب معهم وأراهم المكان ، وقام ناحية ، فقالوا له:فادن . قال لا ولكنني هاهنا في أيديكم ، فإن لم تجدوه فاقتلوني . فحفروا فوجدوا تلك الكتب . فلما أخرجوها قال الشيطان:إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر . ثم طار وذهب . وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا . واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب ، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها ; فذلك حين يقول الله تعالى:( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا )
وقال الربيع بن أنس:إن اليهود سألوا محمدا صلى الله عليه وسلم زمانا عن أمور من التوراة ، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله تعالى عليه ما سألوه عنه ، فيخصمهم ، فلما رأوا ذلك قالوا:هذا أعلم بما أنزل الله إلينا منا . وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به ، فأنزل الله عز وجل:( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك ، فدفنوه تحت مجلس سليمان ، وكان [ سليمان] عليه السلام ، لا يعلم الغيب . فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا الناس ، وقالوا:هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه . فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث فرجعوا من عنده وقد حزنوا ، وأدحض الله حجتهم .
وقال مجاهد في قوله:( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) قال:كانت الشياطين تستمع الوحي فما سمعوا من كلمة [ إلا] زادوا فيها مائتين مثلها . فأرسل سليمان ، عليه السلام ، إلى ما كتبوا من ذلك . فلما توفي سليمان وجدته الشياطين فعلمته الناس [ به] وهو السحر .
وقال سعيد بن جبير:كان سليمان ، عليه السلام ، يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر فيأخذه منهم ، فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته ، فلم يقدر الشياطين أن يصلوا إليه ، فدبت إلى الإنس ، فقالوا لهم:أتدرون ما العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك ؟ قالوا:نعم . قالوا:فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه . فاستثار به الإنس واستخرجوه فعملوا بها . فقال أهل الحجا:كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر . فأنزل الله تعالى على [ لسان] نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان عليه السلام ، فقال:( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا )
وقال محمد بن إسحاق بن يسار عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود ، عليه السلام فكتبوا أصناف السحر:"من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا فليقل كذا وكذا ". حتى إذا صنفوا أصناف السحر جعلوه في كتاب . ثم ختموا بخاتم على نقش خاتم سليمان ، وكتبوا في عنوانه:"هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود ، عليهما السلام من ذخائر كنوز العلم ". ثم دفنوه تحت كرسيه واستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حتى أحدثوا ما أحدثوا . فلما عثروا عليه قالوا:والله ما كان سليمان بن داود إلا بهذا . فأفشوا السحر في الناس [ وتعلموه وعلموه] . وليس هو في أحد أكثر منه في اليهود لعنهم الله . فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نزل عليه من الله ، سليمان بن داود ، وعده فيمن عده من المرسلين ، قال من كان بالمدينة من يهود:ألا تعجبون من محمد ! يزعم أن ابن داود كان نبيا ، والله ما كان إلا ساحرا . وأنزل الله [ في] ذلك من قولهم:( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) الآية .
وقال ابن جرير:حدثنا القاسم ، حدثنا حسين ، حدثنا الحجاج عن أبي بكر ، عن شهر بن حوشب ، قال:لما سلب سليمان ، عليه السلام ، ملكه ، كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان . فكتبت:"من أراد أن يأتي كذا وكذا فليستقبل الشمس ، وليقل كذا وكذا ، ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا . فكتبته وجعلت عنوانه:هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان [ بن داود] من ذخائر كنوز العلم ". ثم دفنته تحت كرسيه . فلما مات سليمان ، عليه السلام ، قام إبليس ، لعنه الله ، خطيبا ، [ ثم] قال:يا أيها الناس ، إن سليمان لم يكن نبيا ، إنما كان ساحرا ، فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته . ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه . فقالوا:والله لقد كان سليمان ساحرا ! هذا سحره ، بهذا تعبدنا ، وبهذا قهرنا . وقال المؤمنون:بل كان نبيا مؤمنا . فلما بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم جعل يذكر الأنبياء حتى ذكر داود وسليمان . فقالت اليهود [ لعنهم الله] انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل . يذكر سليمان مع الأنبياء . إنما كان ساحرا يركب الريح ، فأنزل الله تعالى:( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) الآية .
وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، قال:حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال:سمعت عمران بن حدير ، عن أبي مجلز ، قال:أخذ سليمان ، عليه السلام ، من كل دابة عهدا ، فإذا أصيب رجل فسأل بذلك العهد ، خلى عنه . فزاد الناس السجع والسحر ، وقالوا:هذا يعمل به سليمان . فقال الله تعالى:( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا عصام بن رواد ، حدثنا آدم ، حدثنا المسعودي ، عن زياد مولى ابن مصعب ، عن الحسن:( واتبعوا ما تتلو الشياطين ) قال:ثلث الشعر ، وثلث السحر ، وثلث الكهانة .
وقال:حدثنا الحسن بن أحمد ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار الواسطي ، حدثني سرور بن المغيرة ، عن عباد بن منصور ، عن الحسن:( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) واتبعته اليهود على ملكه . وكان السحر قبل ذلك في الأرض لم يزل بها ، ولكنه إنما اتبع على ملك سليمان .
فهذه نبذة من أقوال أئمة السلف في هذا المقام ، ولا يخفى ملخص القصة والجمع بين أطرافها ، وأنه لا تعارض بين السياقات على اللبيب الفهم ، والله الهادي . وقوله تعالى:( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) أي:واتبعت اليهود الذين أوتوا الكتاب بعد إعراضهم عن كتاب الله الذي بأيديهم ومخالفتهم الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم ما تتلوه الشياطين ، أي:ما ترويه وتخبر به وتحدثه الشياطين على ملك سليمان . وعداه ب على ; لأنه تضمن تتلو:تكذب . وقال ابن جرير:"على "هاهنا بمعنى "في "، أي:تتلو في ملك سليمان . ونقله عن ابن جريج ، وابن إسحاق .
قلت:والتضمن أحسن وأولى ، والله أعلم .
وقول الحسن البصري ، رحمه الله:"قد كان السحر قبل زمان سليمان بن داود "صحيح لا شك فيه ; لأن السحرة كانوا في زمان موسى ، عليه السلام ، وسليمان بن داود بعده ، كما قال تعالى:( ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ) الآية [ البقرة:246] ، ثم ذكر القصة بعدها ، وفيها:( وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة ) [ البقرة:251] . وقال قوم صالح وهم قبل إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، لنبيهم صالح:( إنما أنت من المسحرين ) [ الشعراء:153] أي:[ من] المسحورين على المشهور .
وقوله تعالى:( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ) اختلف الناس في هذا المقام ، فذهب بعضهم إلى أن "ما "نافية ، أعني التي في قوله:( وما أنزل على الملكين ) قال القرطبي:"ما "نافية ومعطوفة على قوله:( وما كفر سليمان ) ثم قال:( ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل ) أي:السحر ( على الملكين ) وذلك أن اليهود لعنهم الله كانوا يزعمون أنه نزل به جبريل وميكائيل فأكذبهم الله في ذلك وجعل قوله:( هاروت وماروت ) بدلا من:( الشياطين ) قال:وصح ذلك ، إما لأن الجمع قد يطلق على الاثنين كما في قوله:( فإن كان له إخوة ) [ النساء:11] أو يكون لهما أتباع ، أو ذكرا من بينهم لتمردهما ، فتقدير الكلام عنده:تعلمون الناس السحر ببابل ، هاروت وماروت . ثم قال:وهذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح ولا يلتفت إلى ما سواه .
وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي ، عن ابن عباس ، في قوله:( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) يقول:لم ينزل الله السحر . وبإسناده ، عن الربيع بن أنس ، في قوله:( وما أنزل على الملكين ) قال:ما أنزل الله عليهما السحر .
قال ابن جرير:فتأويل الآية على هذا:واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر ، وما كفر سليمان ، ولا أنزل الله السحر على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل ، هاروت وماروت . فيكون قوله:( ببابل هاروت [ وماروت] ) من المؤخر الذي معناه المقدم . قال:فإن قال لنا قائل:وكيف وجه تقديم ذلك ؟ قيل:وجه تقديمه أن يقال:( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) "من السحر "( وما كفر سليمان ) وما أنزل الله "السحر "على الملكين ، ( ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) ببابل وهاروت وماروت فيكون معنيا بالملكين:جبريل وميكائيل ، عليهما السلام ; لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود ، فأكذبهم الله بذلك ، وأخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر ، وبرأ سليمان ، عليه السلام ، مما نحلوه من السحر ، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين ، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل ، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان ، اسم أحدهما هاروت ، واسم الآخر ماروت ، فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس ، وردا عليهم .
هذا لفظه بحروفه .
وقد قال ابن أبي حاتم:حدثت عن عبيد الله بن موسى ، أخبرنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية ( وما أنزل على الملكين ) قال:ما أنزل الله على جبريل وميكائيل السحر .
حدثنا الفضل بن شاذان ، حدثنا محمد بن عيسى ، حدثنا يعلى يعني ابن أسد حدثنا بكر يعني ابن مصعب حدثنا الحسن بن أبي جعفر:أن عبد الرحمن بن أبزى كان يقرؤها:"وما أنزل على الملكين داود وسليمان ".
وقال أبو العالية:لم ينزل عليهما السحر ، يقول:علما الإيمان والكفر ، فالسحر من الكفر ، فهما ينهيان عنه أشد النهي . رواه ابن أبي حاتم .
ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول ، وأن "ما "بمعنى الذي ، وأطال القول في ذلك ، وادعى أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما الله إلى الأرض ، وأذن لهما في تعليم السحر اختبارا لعباده وامتحانا ، بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل ، وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك ; لأنهما امتثلا ما أمرا به .
وهذا الذي سلكه غريب جدا ! وأغرب منه قول من زعم أن هاروت وماروت قبيلان من الجن [ كما زعمه ابن حزم] !
وروى ابن أبي حاتم بإسناده . عن الضحاك بن مزاحم:أنه كان يقرؤها:( وما أنزل على الملكين ) ويقول:هما علجان من أهل بابل .
ووجه أصحاب هذا القول الإنزال بمعنى الخلق ، لا بمعنى الإيحاء ، في قوله:( وما أنزل على الملكين ) كما قال تعالى:( وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ) [ الزمر:6] ، ( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ) [ الحديد:25] ، ( وينزل لكم من السماء رزقا ) [ غافر:13] . وفي الحديث:"ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء ". وكما يقال:أنزل الله الخير والشر .
[ وحكى القرطبي عن ابن عباس وابن أبزى والضحاك والحسن البصري:أنهم قرءوا:"وما أنزل على الملكين "بكسر اللام . قال ابن أبزى:وهما داود وسليمان . قال القرطبي:فعلى هذا تكون "ما "نافية أيضا] .
وذهب آخرون إلى الوقف على قوله:( يعلمون الناس السحر ) [ و "ما "نافية] قال ابن جرير:حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا الليث ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، وسأله رجل عن قول الله تعالى:( يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) قال الرجل:يعلمان الناس السحر ، ما أنزل عليهما أو يعلمان الناس ما لم ينزل عليهما ؟ فقال القاسم:ما أبالي أيتهما كانت .
ثم روي عن يونس ، عن أنس بن عياض ، عن بعض أصحابه:أن القاسم قال في هذه القصة:لا أبالي أي ذلك كان ، إني آمنت به .
وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء ، وأنهما أنزلا إلى الأرض ، فكان من أمرهما ما كان . وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في مسنده كما سنورده إن شاء الله تعالى . وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا وبين ما ثبت من الدلائل على عصمة الملائكة أن هذين سبق في علم الله لهما هذا ، فيكون تخصيصا لهما ، فلا تعارض حينئذ ، كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق ، وفي قول:إنه كان من الملائكة ، لقوله تعالى:( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى ) [ طه:116] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك . مع أن شأن هاروت وماروت على ما ذكر أخف مما وقع من إبليس لعنه الله .
[ وقد حكاه القرطبي عن علي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وابن عمر ، وكعب الأحبار ، والسدي ، والكلبي] .
ذكر الحديث الوارد في ذلك إن صح سنده ورفعه وبيان الكلام عليه:
قال الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله ، في مسنده:حدثنا يحيى بن [ أبي] بكير ، حدثنا زهير بن محمد ، عن موسى بن جبير ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر:أنه سمع نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن آدم عليه السلام لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة:أي رب ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ) [ البقرة:30] ، قالوا:ربنا ، نحن أطوع لك من بني آدم . قال الله تعالى للملائكة:هلموا ملكين من الملائكة حتى نهبطهما إلى الأرض ، فننظر كيف يعملان ؟ قالوا:بربنا ، هاروت وماروت . فأهبطا إلى الأرض ومثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر ، فجاءتهما ، فسألاها نفسها . فقالت:لا والله حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك . فقالا:والله لا نشرك بالله شيئا أبدا . فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله ، فسألاها نفسها . فقالت:لا والله حتى تقتلا هذا الصبي . فقالا لا والله لا نقتله أبدا . ثم ذهبت فرجعت بقدح خمر تحمله ، فسألاها نفسها . فقالت:لا والله حتى تشربا هذا الخمر . فشربا فسكرا ، فوقعا عليها ، وقتلا الصبي . فلما أفاقا قالت المرأة:والله ما تركتما شيئا أبيتماه علي إلا قد فعلتماه حين سكرتما . فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا ".
وهكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه ، عن الحسن عن سفيان ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يحيى بن بكير ، به .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، ورجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين ، إلا موسى بن جبير هذا ، وهو الأنصاري السلمي مولاهم المديني الحذاء ، روى عن ابن عباس وأبي أمامة بن سهل بن حنيف ، ونافع ، وعبد الله بن كعب بن مالك . وروى عنه ابنه عبد السلام ، وبكر بن مضر ، وزهير بن محمد ، وسعيد بن سلمة ، وعبد الله بن لهيعة ، وعمرو بن الحارث ، ويحيى بن أيوب . وروى له أبو داود ، وابن ماجه ، وذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل ، ولم يحك فيه شيئا من هذا ولا هذا ، فهو مستور الحال وقد تفرد به عن نافع مولى ابن عمر ، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم . وروي له متابع من وجه آخر عن نافع ، كما قال ابن مردويه:حدثنا دعلج بن أحمد ، حدثنا هشام [ بن علي بن هشام] حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا سعيد بن سلمة ، حدثنا موسى بن سرجس ، عن نافع ، عن ابن عمر:سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول . فذكره بطوله .
وقال أبو جعفر بن جرير:حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين وهو سنيد بن داود صاحب التفسير حدثنا الفرج بن فضالة ، عن معاوية بن صالح ، عن نافع ، قال:سافرت مع ابن عمر ، فلما كان من آخر الليل قال:يا نافع ، انظر ، طلعت الحمراء ؟ قلت:لا مرتين أو ثلاثا ثم قلت:قد طلعت . قال:لا مرحبا بها ولا أهلا ؟ قلت:سبحان الله ! نجم مسخر سامع مطيع . قال:ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال:قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الملائكة قالت:يا رب ، كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب ؟ قال:إني ابتليتهم وعافيتكم . قالوا:لو كنا مكانهم ما عصيناك . قال:فاختاروا ملكين منكم . قال:فلم يألوا جهدا أن يختاروا ، فاختاروا هاروت وماروت ".
وهذان أيضا غريبان جدا . وأقرب ما في هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر ، عن كعب الأحبار ، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما قال عبد الرزاق في تفسيره ، عن الثوري ، عن موسى بن عقبة ، عن سالم ، عن ابن عمر ، عن كعب ، قال ذكرت الملائكة أعمال بني آدم ، وما يأتون من الذنوب ، فقيل لهم:اختاروا منكم اثنين ، فاختاروا هاروت وماروت . فقال لهما:إني أرسل إلى بني آدم رسلا وليس بيني وبينكم رسول ، انزلا لا تشركا بي شيئا ولا تزنيا ولا تشربا الخمر . قال كعب:فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استكملا جميع ما نهيا عنه .
ورواه ابن جرير من طريقين ، عن عبد الرزاق ، به .
ورواه ابن أبي حاتم ، عن أحمد بن عصام ، عن مؤمل ، عن سفيان الثوري ، به .
ورواه ابن جرير أيضا:حدثني المثنى ، حدثنا المعلى وهو ابن أسد حدثنا عبد العزيز بن المختار ، عن موسى بن عقبة ، حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث ، عن كعب الأحبار ، فذكره .
فهذا أصح وأثبت إلى عبد الله بن عمر من الإسنادين المتقدمين ، وسالم أثبت في أبيه من مولاه نافع . فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار ، عن كتب بني إسرائيل ، والله أعلم .
ذكر الآثار الواردة في ذلك عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين:
قال ابن جرير:حدثني المثنى ، حدثنا الحجاج حدثنا حماد ، عن خالد الحذاء ، عن عمير بن سعيد ، قال:سمعت عليا ، رضي الله عنه ، يقول:كانت الزهرة امرأة جميلة من أهل فارس ، وإنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت ، فراوداها عن نفسها ، فأبت عليهما إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكلم [ المتكلم] به يعرج به إلى السماء . فعلماها فتكلمت به فعرجت إلى السماء . فمسخت كوكبا !
وهذا الإسناد [ جيد و] رجاله ثقات ، وهو غريب جدا .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا الفضل بن شاذان ، حدثنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا أبو معاوية ، عن [ ابن أبي] خالد ، عن عمير بن سعيد ، عن علي قال:هما ملكان من ملائكة السماء . يعني:( وما أنزل على الملكين ) .
ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره بسنده ، عن مغيث ، عن مولاه جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي مرفوعا . وهذا لا يثبت من هذا الوجه .
ثم رواه من طريقين آخرين ، عن جابر ، عن أبي الطفيل ، عن علي ، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لعن الله الزهرة ، فإنها هي التي فتنت الملكين هاروت وماروت ". وهذا أيضا لا يصح وهو منكر جدا . والله أعلم .
وقال ابن جرير:حدثني المثنى بن إبراهيم ، حدثنا الحجاج بن منهال ، حدثنا حماد ، عن علي بن زيد ، عن أبي عثمان النهدي ، عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا جميعا:لما كثر بنو آدم وعصوا ، دعت الملائكة عليهم والأرض والجبال ربنا لا تهلكهم ، فأوحى الله إلى الملائكة:إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم ، ولو نزلتم لفعلتم أيضا . قال:فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا ، فأوحى الله إليهم أن اختاروا ملكين من أفضلكم . فاختاروا هاروت وماروت . فأهبطا إلى الأرض ، وأنزلت الزهرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس يسمونها بيذخت . قال:فوقعا بالخطية . فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا:( ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما ) [ غافر:7]
فلما وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم . فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا .
وقال:ابن أبي حاتم:حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي ، أخبرنا عبيد الله يعني ابن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة ، عن المنهال بن عمرو ويونس بن خباب ، عن مجاهد ، قال:كنت نازلا على عبد الله بن عمر في سفر ، فلما كان ذات ليلة قال لغلامه:انظر ، هل طلعت الحمراء ، لا مرحبا بها ولا أهلا ولا حياها الله هي صاحبة الملكين . قالت الملائكة:يا رب ، كيف تدع عصاة بني آدم وهم يسفكون الدم الحرام وينتهكون محارمك ويفسدون في الأرض ! قال:إني ابتليتهم ، فعل إن ابتليتكم بمثل الذي ابتليتهم به فعلتم كالذي يفعلون . قالوا:لا . قال:فاختاروا من خياركم اثنين . فاختاروا هاروت وماروت . فقال لهما:إني مهبطكما إلى الأرض ، وعاهد إليكما ألا تشركا ولا تزنيا ولا تخونا . فأهبطا إلى الأرض وألقي عليهما الشبق ، وأهبطت لهما الزهرة في أحسن صورة امرأة ، فتعرضت لهما ، فراوداها عن نفسها . فقالت:إني على دين لا يصح لأحد أن يأتيني إلا من كان على مثله . قالا وما دينك ؟ قالت:المجوسية . قالا:الشرك ! هذا شيء لا نقر به . فمكثت عنهما ما شاء الله . ثم تعرضت لهما فأراداها عن نفسها . فقالت:ما شئتما ، غير أن لي زوجا ، وأنا أكره أن يطلع على هذا مني فأفتضح ، فإن أقررتما لي بديني ، وشرطتما لي أن تصعدا بي إلى السماء فعلت . فأقرا لها بدينها وأتياها فيما يريان ، ثم صعدا بها إلى السماء . فلما انتهيا بها إلى السماء اختطفت منهما ، وقطعت أجنحتهما فوقعا خائفين نادمين يبكيان ، وفي الأرض نبي يدعو بين الجمعتين ، فإذا كان يوم الجمعة أجيب . فقالا:لو أتينا فلانا فسألناه فطلب لنا التوبة فأتياه ، فقال:رحمكما الله ، كيف يطلب التوبة أهل الأرض لأهل السماء ! قالا:إنا قد ابتلينا . قال:ائتياني يوم الجمعة . فأتياه ، فقال:ما أجبت فيكما بشيء ، ائتياني في الجمعة الثانية . فأتياه ، فقال:اختارا ، فقد خيرتما ، إن أحببتما معافاة الدنيا وعذاب الآخرة ، وإن أحببتما فعذاب الدنيا وأنتما يوم القيامة على حكم الله . فقال أحدهما:إن الدنيا لم يمض منها إلا القليل . وقال الآخر:ويحك ؟ إني قد أطعتك في الأمر الأول فأطعني الآن ، إن عذابا يفنى ليس كعذاب يبقى . وإننا يوم القيامة على حكم الله ، فأخاف أن يعذبنا . قال:لا إني أرجو إن علم الله أنا قد اخترنا عذاب الدنيا مخافة عذاب الآخرة لا يجمعهما علينا . قال:فاختارا عذاب الدنيا ، فجعلا في بكرات من حديد في قليب مملوءة من نار ، عاليهما سافلهما .
وهذا إسناد جيد إلى عبد الله بن عمر . وقد تقدم في رواية ابن جرير من حديث معاوية بن صالح ، عن نافع ، عنه رفعه . وهذا أثبت وأصح إسنادا . ثم هو والله أعلم من رواية ابن عمر عن كعب ، كما تقدم بيانه من رواية سالم عن أبيه . وقوله:إن الزهرة نزلت في صورة امرأة حسناء ، وكذا في المروي عن علي ، فيه غرابة جدا .
وأقرب ما ورد في ذلك ما قال ابن أبي حاتم:حدثنا عصام بن رواد ، حدثنا آدم ، حدثنا أبو جعفر ، حدثنا الربيع بن أنس ، عن قيس بن عباد ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما قال:لما وقع الناس من بعد آدم ، عليه السلام ، فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله ، قالت الملائكة في السماء:يا رب ، هذا العالم الذي إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك ، قد وقعوا فيما وقعوا فيه وركبوا الكفر وقتل النفس وأكل المال الحرام ، والزنا والسرقة وشرب الخمر . فجعلوا يدعون عليهم ، ولا يعذرونهم ، فقيل:إنهم في غيب . فلم يعذروهم . فقيل لهم:اختاروا منكم من أفضلكم ملكين ، آمرهما وأنهاهما . فاختاروا هاروت وماروت . فأهبطا إلى الأرض ، وجعل لهما شهوات بني آدم ، وأمرهما الله أن يعبداه ولا يشركا به شيئا ، ونهيا عن قتل النفس الحرام وأكل المال الحرام ، وعن الزنا والسرقة وشرب الخمر . فلبثا في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحق وذلك في زمان إدريس عليه السلام . وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة في سائر الكواكب ، وأنهما أتيا عليها فخضعا لها في القول وأراداها على نفسها فأبت إلا أن يكونا على أمرها وعلى دينها ، فسألاها عن دينها ، فأخرجت لهما صنما فقالت:هذا أعبده . فقالا:لا حاجة لنا في عبادة هذا . فذهبا فغبرا ما شاء الله . ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها ، ففعلت مثل ذلك . فذهبا ، ثم أتيا عليها فراوداها على نفسها ، فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم قالت لهما:اختارا إحدى الخلال الثلاث:إما أن تعبدا هذا الصنم ، وإما أن تقتلا هذه النفس ، وإما أن تشربا هذا الخمر . فقالا:كل هذا لا ينبغي ، وأهون هذا شرب الخمر . فشربا الخمر فأخذت فيهما فواقعا المرأة ، فخشيا أن يخبر الإنسان عنهما فقتلاه فلما ذهب عنهما السكر وعلما ما وقعا فيه من الخطيئة أرادا أن يصعدا إلى السماء ، فلم يستطيعا ، وحيل بينهما وبين ذلك ، وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء ، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه ، فعجبوا كل العجب ، وعرفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية ، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض ، فنزل في ذلك:( والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ) [ الشورى:5] فقيل لهما:اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة فقالا:أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع ويذهب ، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له . فاختارا عذاب الدنيا ، فجعلا ببابل ، فهما يعذبان .
وقد رواه الحاكم في مستدركه مطولا عن أبي زكريا العنبري ، عن محمد بن عبد السلام ، عن إسحاق ابن راهويه ، عن حكام بن سلم الرازي ، وكان ثقة ، عن أبي جعفر الرازي ، به . ثم قال:صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه . فهذا أقرب ما روي في شأن الزهرة ، والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي ، حدثنا مسلم ، حدثنا القاسم بن الفضل الحداني حدثنا يزيد يعني الفارسي عن ابن عباس [ قال] أن أهل سماء الدنيا أشرفوا على أهل الأرض فرأوهم يعملون المعاصي فقالوا:يا رب أهل الأرض كانوا يعملون بالمعاصي ! فقال الله:أنتم معي ، وهم غيب عني . فقيل لهم:اختاروا منكم ثلاثة ، فاختاروا منهم ثلاثة على أن يهبطوا إلى الأرض ، على أن يحكموا بين أهل الأرض ، وجعل فيهم شهوة الآدميين ، فأمروا ألا يشربوا خمرا ولا يقتلوا نفسا ، ولا يزنوا ، ولا يسجدوا لوثن . فاستقال منهم واحد ، فأقيل . فأهبط اثنان إلى الأرض ، فأتتهما امرأة من أحسن الناس يقال لها:مناهية . فهوياها جميعا ، ثم أتيا منزلها فاجتمعا عندها ، فأراداها فقالت لهما:لا حتى تشربا خمري ، وتقتلا ابن جاري ، وتسجدا لوثني . فقالا لا نسجد . ثم شربا من الخمر ، ثم قتلا ثم سجدا . فأشرف أهل السماء عليهما . فقالت لهما:أخبراني بالكلمة التي إذا قلتماها طرتما . فأخبراها فطارت فمسخت جمرة . وهي هذه الزهرة . وأما هما فأرسل إليهما سليمان بن داود فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة . فاختارا عذاب الدنيا . فهما مناطان بين السماء والأرض .
وهذا السياق فيه زيادات كثيرة وإغراب ونكارة ، والله أعلم بالصواب .
وقال عبد الرزاق:قال معمر:قال قتادة والزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله:( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) كانا ملكين من الملائكة ، فأهبطا ليحكما بين الناس . وذلك أن الملائكة سخروا من حكام بني آدم ، فحاكمت إليهما امرأة ، فحافا لها . ثم ذهبا يصعدان فحيل بينهما وبين ذلك ، ثم خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا . وقال معمر:قال قتادة:فكانا يعلمان الناس السحر ، فأخذ عليهما ألا يعلما أحدا حتى يقولا ( إنما نحن فتنة فلا تكفر ) .
وقال أسباط عن السدي أنه قال:كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم ، فقيل لهما:إني أعطيت بني آدم عشرا من الشهوات ، فبها يعصونني . قال هاروت وماروت:ربنا ، لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل . فقال لهما:انزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر ، فاحكما بين الناس . فنزلا ببابل دنباوند ، فكانا يحكمان ، حتى إذا أمسيا عرجا ، فإذا أصبحا هبطا ، فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها ، فأعجبهما حسنها واسمها بالعربية "الزهرة "، وبالنبطية "بيذخت "وبالفارسية "أناهيد "فقال أحدهما لصاحبه:إنها لتعجبني . قال الآخر:قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك . فقال الآخر:هل لك أن أذكرها لنفسها ؟ قال:نعم ، ولكن كيف لنا بعذاب الله ؟ قال الآخر:إنا لنرجو رحمة الله . فلما جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها ، فقالت:لا حتى تقضيا لي على زوجي . فقضيا لها على زوجها ، ثم واعدتهما خربة من الخرب يأتيانها فيها ، فأتياها لذلك . فلما أراد الذي يواقعها قالت:ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء ، وبأي كلام تنزلان منها ؟ فأخبراها ، فتكلمت فصعدت ، فأنساها الله ما تنزل به ، فبقيت مكانها ، وجعلها الله كوكبا . فكان عبد الله بن عمر كلما رآها لعنها ، فقال:هذه التي فتنت هاروت وماروت ، فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يطيقا ، فعرفا الهلكة ، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا ، فعلقا ببابل ، وجعلا يكلمان الناس كلامهما وهو السحر .
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد:أما شأن هاروت وماروت ، فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم ، وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات ، فقال لهم ربهم تعالى:اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض بين بني آدم فاختاروا فلم يألوا [ إلا] هاروت وماروت ، فقال لهما حين أنزلهما:أعجبتما من بني آدم من ظلمهم ومن معصيتهم ، وإنما تأتيهم الرسل والكتب [ والبينات] من وراء وراء ، وأنتما ليس بيني وبينكما رسول ، فافعلا كذا وكذا ، ودعا كذا وكذا ، فأمرهما بأمر ونهاهما ، ثم نزلا على ذلك ليس أحد أطوع لله منهما ، فحكما فعدلا . فكانا يحكمان في النهار بين بني آدم ، فإذا أمسيا عرجا فكانا مع الملائكة ، وينزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان ، حتى أنزلت عليهما الزهرة في أحسن صورة امرأة تخاصم ، فقضيا عليها . فلما قامت وجد كل واحد منهما في نفسه ، فقال أحدهما لصاحبه:وجدت مثل الذي وجدت ؟ قال:نعم . فبعثا إليها أن ائتيانا نقض لك . فلما رجعت قالا وقضيا لها ، فأتتهما فتكشفا لها عن عورتيهما ، وإنما كانت شهوتهما في أنفسهما ، ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذتها . فلما بلغا ذلك واستحلا افتتنا ، فطارت الزهرة فرجعت حيث كانت . فلما أمسيا عرجا فزجرا فلم يؤذن لهما ، ولم تحملهما أجنحتهما . فاستغاثا برجل من بني آدم فأتياه ، فقالا ادع لنا ربك . فقال:كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء ؟ قالا:سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء . فوعدهما يوما ، وغدا يدعو لهما ، فدعا لهما ، فاستجيب له ، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فنظر أحدهما إلى صاحبه ، فقال:ألا تعلم أن أفواج عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد ، وفي الدنيا تسع مرات مثلها ؟ فأمرا أن ينزلا ببابل ، فثم عذابهما . وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان ، يصفقان بأجنحتهما .
وقد روى في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين ، كمجاهد والسدي والحسن [ البصري] وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم ، وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين ، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل ، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها ، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى ، والله أعلم بحقيقة الحال .
وقد ورد في ذلك أثر غريب وسياق عجيب في ذلك أحببنا أن ننبه عليه ، قال:الإمام أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله:حدثنا الربيع بن سليمان ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن أبي الزناد ، حدثني هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم [ رضي الله عنها وعن أبيها] أنها قالت:قدمت امرأة علي من أهل دومة الجندل ، جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حداثة ذلك ، تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ، ولم تعمل به . قالت عائشة ، رضي الله عنها ، لعروة:يا ابن أختي ، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها كانت تبكي حتى إني لأرحمها ، وتقول:إني أخاف أن أكون قد هلكت . كان لي زوج فغاب عني ، فدخلت على عجوز فشكوت ذلك إليها ، فقالت:إن فعلت ما آمرك به فأجعله يأتيك . فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين ، فركبت أحدهما وركبت الآخر ، فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل ، وإذا برجلين معلقين بأرجلهما . فقالا:ما جاء بك ؟ فقلت:أتعلم السحر . فقالا:إنما نحن فتنة فلا تكفري ، فارجعي . فأبيت وقلت:لا . قالا:فاذهبي إلى ذلك التنور ، فبولي فيه . فذهبت ففزعت ولم أفعل ، فرجعت إليهما ، فقالا:أفعلت ؟ فقلت:نعم . فقالا:هل رأيت شيئا ؟ فقلت:لم أر شيئا . فقالا:لم تفعلي ، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري [ فإنك على رأس أمرك] . فأرببت وأبيت . فقالا:اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه . فذهبت فاقشعررت [ وخفت] ثم رجعت إليهما فقلت:قد فعلت . فقالا:فما رأيت ؟ فقلت:لم أر شيئا . فقالا:كذبت ، لم تفعلي ، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري ; فإنك على رأس أمرك . فأرببت وأبيت . فقالا اذهبي إلى ذلك التنور ، فبولي فيه . فذهبت إليه فبلت فيه ، فرأيت فارسا مقنعا بحديد خرج مني ، فذهب في السماء وغاب [ عني] حتى ما أراه ، فجئتهما فقلت:قد فعلت . فقالا:فما رأيت ؟ قلت:رأيت فارسا مقنعا خرج مني فذهب في السماء ، حتى ما أراه . فقالا:صدقت ، ذلك إيمانك خرج منك ، اذهبي . فقلت للمرأة:والله ما أعلم شيئا وما قالا لي شيئا . فقالت:بلى ، لم تريدي شيئا إلا كان ، خذي هذا القمح فابذري ، فبذرت ، وقلت:أطلعي فأطلعت وقلت:أحقلي فأحقلت ثم قلت:أفركي فأفركت . ثم قلت:أيبسي فأيبست . ثم قلت:أطحني فأطحنت . ثم قلت:أخبزي فأخبزت . فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا كان ، سقط في يدي وندمت والله يا أم المؤمنين ، والله ما فعلت شيئا قط ولا أفعله أبدا .
ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن سليمان ، به مطولا كما تقدم . وزاد بعد قولها:ولا أفعله أبدا:فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حداثة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يومئذ متوافرون ، فما دروا ما يقولون لها ، وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلمه ، إلا أنه قد قال لها ابن عباس أو بعض من كان عنده:لو كان أبواك حيين أو أحدهما [ لكان يكفيانك] .
قال هشام:فلو جاءتنا أفتيناها بالضمان [ قال]:قال ابن أبي الزناد:وكان هشام يقول:إنهم كانوا أهل الورع والخشية من الله . ثم يقول هشام:لو جاءتنا مثلها اليوم لوجدت نوكى أهل حمق وتكلف بغير علم .
فهذا إسناد جيد إلى عائشة ، رضي الله عنها .
وقد استدل بهذا الأثر من ذهب إلى أن الساحر له تمكن في قلب الأعيان ; لأن هذه المرأة بذرت واستغلت في الحال .
وقال آخرون:بل ليس له قدر