مبحث السحر وهاروت وماروت
ثم ذكر تعالى أن أولئك الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم مجاحدة للنبي صلى الله عليه وسلم وحسدا له قد تبدلوا الكفر بالإيمان واشتروا الضلالة بالهدى{ واتبعوا ما تتلوا الشياطين} من الإنس في قصصها وأساطيرها ، أو من الجن في وسوستها ، أو منهما جميعا ، على حد قوله تعالى{ 6:116 شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ){ على ملك سلميان} أي ما كانت تتلو على عهده وفي أيام ملكه ، إذ زعموا أن ملكه قام على أساس السحر والطلسمات ، وأنه ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام مرضاة لنسائه الوثنيات{ وما كفر سليمان} وما سحر{ ولكن} أولئك{ الشياطين} الذين يسندون إليه ما انتحلوه من السحر ، وما تلبسوا من الكفر ، هم الذين{ كفروا – يعلمون الناس السحر} ليفتنوا به العامة ويضلونهم عن طلب الأشياء من أسبابها الظاهرة ومناهجها المشروعة .
هذه الأوهام والأكاذيب على نبي الله سليمان عليه السلام مما افتجره بعض الدجالين من بني إسرائيل ووسوسوا به إلى بعض المسلمين فصدقوهم في بعض ما زعموه من حكايات السحر ، وكذبوهم فيما رموا به سليمان من الكفر ، وإنك لترى دجاجلة المسلمين إلى اليوم يتلون أقساما وعزائم ، ويخطون خطوطا وطلاسم ويسمون ذلك خاتم سليمان وعهوده ، ويزعمون أنها تقي حاملها من اعتداء الجن ومس العفاريت ، ولقد رأى كاتب هذا التفسير شيئا من ذلك ، وكان في أيام حداثته يصدق به ويعتقد فائدته .
وقد زعم اليهود أن سليمان سحر ودفن السحر تحت كرسيه ، وأنه أضاع خاتمه الذي كان به ملكه ، فوقع في يد آخر وجلس مجلسه للحكم الخ ما خلطوا فيه التاريخ بالدجل .وروي عنهم أن سليمان هو الذي جمع كتب السحر من الناس ودفنها تحت كرسيه ثم استخرجها الناس وتناقلوها .وفي رواية أخرى أنه إنما دفن تحت كرسيه كتبا أخرى في العلوم فلما استخرجت أشاع الشياطين أنها كتب سحر ، وأنشأ الدجالون بعد ذلك ينتحلون ما شاءوا وينسبونه إلى تلك الكتب .ولا شك أن ما قالوه على سليمان وملكه من خبر السحر والكفر مكذوب افتراه أهل الأهواء وقد قصه الله تعالى علينا لنعتبر بما افتراه هؤلاء الناس على الأنبياء ، وبترجيح فريق من خلفهم الاشتغال بذلك على الاهتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى إنهم نبذوا كتابهم الذي بشر به وراء ظهورهم .
ومن البديهي أن ذكر القصة في القرآن لا يقتضي أن يكون كل ما يحكى فيها عن الناس صحيحا فذكر السحر في هذه الآيات لا يستلزم إثبات ما يعتقد الناس منه كما أن نسبة الكفر إلى سليمان التي علمت من النفي لا تستلزم أن تكون صحيحة لأنها ذكرت في القرآن ولو لم يكن ذكرها في سياق النفي .
( قال الأستاذ الإمام ما مثاله ) بينا غير مرة أن القصص جاءت في القرآن لأجل الموعظة والاعتبار لا لبيان التاريخ ولا للحمل على الاعتقاد بجزئيات الأخبار عند الغابرين ، وإنه ليحكي من عقائدهم الحق والباطل ، ومن تقاليدهم الصادق والكاذب ، ومن عاداتهم النافع والضار ، لأجل الموعظة والاعتبار ، فحكاية القرآن لا تعدو موضع العبرة ولا تتجاوز موطن الهداية ، ولا بدّ أن يأتي في العبارة أو السياق وأسلوب النظم ما يدل على استحسان الحسن واستهجان القبيح .وقد يأتي في الحكاية بالتعبيرات المستعملة عند المخاطبين أو المحكي عنهم وإن لم تكن صحيحة في نفسها كقوله{ كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} وكقوله{ بلغ مطلع الشمس} وهذا الأسلوب مألوف فإننا نرى كثيرا من كتاب العربية وكتاب الإفرنج يذكرون آلهة الخير والشر في خطبهم ومقالاتهم لا سيما في سياق كلامهم عن اليونان والمصريين القدماء ولا يعتقد أحد منهم شيئا من تلك الخرافات الوثنية .ويقول أهل السواحل غربت الشمس أو سقط قرص الشمس في البحر أو في الماء ، ولا يعتقدون ذلك وإنما يعبرون به عن المرئي .
جاء ذكر السحر في مواضع متعددة في القرآن وأكثره في قصة موسى وفرعون وذكر هنا في الكلام اليهود .وإذا أردنا فهمه من عرف اللغة وجدنا أن السحر عند العرب كل ما لطف مأخذه ودق وخفى ، وقالوا سحره وسحّره بمعنى خدعه وعلله ، وقالوا عين ساحرة وعيون سواحر ، وفي الحديث الصحيح"إن من البيان لسحرا "والسحر بالفتح وبالتحريك الرئة وهي أصل هذه المادة والرئة في الباطن فما لطف مأخذه ودق صنعه حتى لا يهتدي إليه غير أهله فهو باطن خفى ومنه الخداع وهو أن يظهر لك شيئا غير الواقع في نفس الأمر فالواقع باطن خفى ، وتأثير العيون في عشاق الحسان ، والكلام البليغ في عشاق البيان ، مما يخفى مسلكه ويدق سببه ، حتى يعسر على أكثر الناس الوقوف على العلة في تأثيره .
وقد وصف الله السحر في القرآن بأنه تخييل يخدع الأعين فيرميها ما ليس بكائن كائنا فقال{ يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} والكلام في حبال السحرة وعصيهم وفي رواية أخرى{ فسحروا أعين الناس واسترهبوهم} وفي هذه الآية التي نفسرها أن السحر كان يؤخذ بالتعليم والتاريخ يشهد بهذا ، وقد كان المصريون يطلقون لقب الساحر على العالم كما يؤخذ من قوله تعالى{ وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك} ومجموع هذه النصوص يدل على أن السحر إما حيلة وشعوذة ، وإما صناعة علمية خفية يعرفها بعض الناس ويجهلها الأكثرون فيسمون العمل بها سحرا لخفاء سببه ولطف مأخذه ، ويمكن أن يعد منه تأثير النفس الإنسانية في نفس أخرى لمثل هذه العلة .وقد قال المؤرخون إن سحرة فرعون قد استعانوا بالزئبق على إظهار الحبال والعصي بصور الحيات والثعابين وتخييل أنها تسعى .
وقد اعتاد الذين اتخذوا التأثيرات النفسية صناعة ووسيلة للمعاش أن يستعينوا بكلام منهم وأسماء غريبة اشتهر عند الناس أنها من أسماء الشياطين وملوك الجان وأنهم يحضرون إذا دعوا بها ويكونون مسخرين للداعي .ولمثل هذا الكلام تأثير في إثارة الوهم عرف بالتجربة ، وسببه اعتقادا لواهم أن الشياطين يستجيبون لقرائه ويطيعون أمره ، ومنه من يعتقد أن فيه خاصية التأثير وليس فيه خاصية وإنما تلك العقيدة الفاسدة تفعل في النفس الواهمة ما يغني منتحل السحر عن توجيه همته وتأثير إرادته .وهذا هو السبب في اعتقاد لدهماء أن السحر عمل يستعان عليه بالشياطين وأرواح الكواكب .
وقد اختلف المتكلمون والمفسرون والفقهاء في حقيقة السحر وفي أحكامه وعده بعضهم من خوارق العادات ، وفرقوا بينه وبين المعجزة ، ولم يذكروا في فروقهم أن السحر يتلقى بالتعليم ويتكرر بالعمل فهو أمر عادي قطعا بخلاف المعجزة .
( قال الأستاذ الإمام ):في قوله تعالى{ يعلمون الناس السحر} وجهان ( أحدهما ) أنه متصل بقوله{ ولكن الشياطين كفروا} أي إن الشياطين هم الذين يعلمون الناس السحر ( والثاني ) وهو الأظهر أنه متصل بالكلام عن اليهود وإن الكلام في الشياطين قد انتهى عند القول بكفرهم .وانتحال اليهود لتعليم السحر أمر كان مشهورا في زمن التنزيل ولا يزالون ينتحلون ذلك إلى اليوم .أي إن فريق من اليهود نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وهاهنا يقول القائل:بماذا اتبعوا أولئك الشياطين الذين كذبوا على سليمان في رميه بالكفر وزعمهم أن السحر استخرج من كتبه التي كانت تحت كرسيه ؟ فأجاب على طريق الاستئناف البياني ( يعلمون الناس السحر ) الخ ، ونفي الكفر عن سليمان .وإلصاقه بالشياطين الكاذبين ذكر بطريق الاعتراض فعلم أيضا أنهم اتبعوا الشياطين بهذه الفرية أيضا .وإنما كان القصد إلى وصف اليهود بتعليم السحر لأنه من السيئات التي كانوا متلبسين بها ويضربون به الناس خداعا وتمويها وتلبيسا .
ثم قال{ وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} فأجمل بهذه العبارة الوجيزة خبر قصة كانوا يتحدثون بها كما أجمل في ذكر تعليم السحر فلم يذكر ما هو ؟ .أشعوذة وتخييل ؛ أم خواص طبيعية ، وتأثيرات نفسية ؟ وهذا ضرب من الإعجاز في الإيجاز انفرد به القرآن – يذكر الأمر المشهور بين الناس في وقت من الأوقات لأجل الاعتبار به فينظمه في أسلوب يمكن لكل أحد أن يقبله فيه مهما يكن اعتقاده لذلك الشيء في تفصيله ، ألا ترى كيف ذكر السحر هنا وفي مواضع أخرى بأساليب لا يستطيع أن ينكرها من يدعي أن السحر حيلة وشعوذة أو غير ذلك مما ذكرناه ولا يستطيع أن يردها من يدعي أنه من خوارق العادات ؟
والحكمة في ذلك أن الله عز وجل قد وكل معرفة هذه الحقائق الكونية إلى بحث الإنسان واشتغاله بالعلم لأنه من الأمور الكسبية ، ولو بين مسائلها بالنص القاطع لجاءت مخالفة لعلم الناس واختبارهم في كل جيل لم يرتق العلم فيه إلى أعلى درجة ، ولكانت تلك المخالفة من أسباب الشك أو التكذيب فإننا نرى من الناس من يطعن في كتب الوحي لتفسير بعض تلك الأمور المجملة بما يتراءى لهم وإن تكن نصا ولا ظاهرا فيه ، ويزعمون أن كتاب الدين جاء مخالفا للعلم وإن كان ذلك الذي يطلقون عليه اسم العلم ظنيا أو فرضيا .
في ( الملكين ) قراءتان فتح اللام وكسرها ، فالأولى قراءة الجمهور والثانية قراءة ابن عباس والحسن وأبي الأسود والضحاك .وحمل بعضهم قراءة الفتح على قراءة الكسر ويؤيده ما قيل إن المراد بهما داود وسليمان عليهما السلام .وقيل بل هما رجلان صاحبا وقار وسمت فشبها بالملائكة ، وكان يؤمهما الناس بالحوائج الأهلية ويجلونهما أشد الإجلال فشبها بالملوك ، وتلك عادة الناس فيمن ينفرد بالصفات المحمودة يقولون:هذا ملك وليس بإنسان كما يقولون فيمن كان سيدا عزيزا يظهر الغنى عن الناس من حيث يحتاجون إليه:هذا سلطان زمانه .جلت حكمة الله في خلقه فقد قدّ هؤلاء الآدميين من أديم واحد ، كان الناس على عهد هاروت وماروت – اللذين كان يتحدث بخبرهما ولا يحدد تاريخهما – على مثالهم اليوم لا يقصدون للفصل في شئونهم الأهلية من الجهة الروحانية إلا إلى أهل السمت والوقار اللابسين لباس أهل التقوى والصلاح ؛ هذا ما نشاهدهم عليه في زماننا وهذا ما حكى الله تعالى عنهم في الزمن القديم ، وقال الأستاذ الإمام:لعل الله تعالى سماهما ملكين ( بفتح اللام ) حكاية لاعتقاد الناس فيهما وأجاز أيضا كون إطلاق لفظ الملكين عليهما مجازا كما قال بعض المفسرين .قال تعالى في اليهود{ يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل} والظاهر من العطف أن ما أنزل عليهما هو غير السحر ضم إليه لأنه من جنسه في كون تعلميه سيئة مذمومة أو هو لتغاير الاعتبار أو النوع .وليس معنى الإنزال عليهما أنه وحي من الله كوحيه للأنبياء فيشكل عده من الشر والباطل الذي يذم تعلمه ، فإن كلمة أنزل تستعمل في مواضع لا صلة بينها وبين وحي الأنبياء .وقالوا:أنزلت حاجتي على كريم ، وأنزل لي هذه الأبيات:ويقال:قد أنزل الصبر على قلب فلان:وقال تعالى{ 57:25 وأنزلنا الحديد} وقال{ 9:26 فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} ولعل التعبير ما أوتياه من العلم بالإنزال لأنه لم يكن يعرف له مأخذ غيرهما يراد أنهما ألهماه إلهاما واهتديا إليه من غير أستاذ ولا معلم .ويصح أن يسمى مثل هذا وحيا لخفاء منبعه وليس الوحي وإلهام الخواطر خاصا في عرف اللغة ولا عرف القرآن بالأنبياء ولا بما يكون موضوعه خيرا أو حقا فقد قال تعالى{ 16:68 وأوحى ربك إلى النحل} قال{ 28:7 وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} وقال{ شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا} وقال الشاعر:
رأس الغواية في العقل السقيم فما *** فيه فأكثره وحي الشياطين
وذكر ابن جرير الطبري وجها آخر في تفسير{ وما أنزل على الملكين} ونقله كثير من المفسرين وهو أن ( ما ) نافية أي إن اليهود يعلمون الناس السحر ويرتقون بسنده إلى الملكين ببابل ، وما أنزل السحر على الملكين فكيف كانوا يعلمونه بني إسرائيل ؟ وقد ضعفوه بأن الثابت في الواقع أن بني إسرائيل كانوا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين .وقد أجاز هذا التضعيف الأستاذ الإمام .على أنه يمكن أن يراد به نفي الإنزال خاصة أي أن ذلك السحر الذي ينسبونه إلى الملكين لم ينزل عليهما إنزالا من الله فينظمه اليهود في سلك العلوم المحمودة ويزعمون أنه حق وإنما هو شيء افتجراه واخترعاه من عند أنفسهما .
ثم قال{ وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر} أي إن ما عندنا هو أمر يبتلى به الله الناس ويختبرهم فلا تتعلم ما هو كفر .فإن أصر علماه هذا ما عليه الجمهور واقتصر عليه الأستاذ الإمام في الدرس .وقال البيضاوي:وما يعلمان أحدا حتى ينصحاه ويقولا له:إنما نحن ابتلاء من الله فمن تعلم منا وعمل به كفر ، ومن تعلم وتوقى عمله ثبت على الإيمان ،{ فلا تكفر} باعتقاد جوازه والعمل به ، وفيه دليل على أن تعلم السحر وما لا يجوز اتباعه غير محظور وإنما المنع من اتباعه والعمل به ا ه .ويجوز أن يكون المعنى إنما نحن أولو فتنة نبلوك ونختبرك أتشكر أم تكفر وننصح لك بأن لا تكفر .ولعلهما يقولان هذا للمحافظة على حسن اعتقاد الناس بفضلهما إذ كانوا يقولون هما ملكان .وإننا نسمع الدجاجلة الذين ينتحلون مثل هذا ويوهمون الناس أنهم روحانيون يقولون لمن يعلمونهم الكتابة للمحبة وللبغض نوصيك بأن لا تكتب هذا لجلب امرأة متزوجة إلى حب رجل غير زوجها ، ولا تكتب لأحد الزوجين بأن يبغض الآخر ، وأن تخص هذه الفوائد بالمصلحة كالحب بين الزوجين ، والتفريق بين العاشقين الفاسقين ، وإنما يقولون هذا ليوهموا الناس أن علومهم إلهية ، وأن صناعتهم روحانية ، وأنهم صحيحوا النية ، وقد كان اليهود يسندون سحرهم إلى ملكين ببابل ونرى دجاجلة المسلمين من المغاربة وغيرهم يسندون خزعبلاتهم إلى"دانيال النبي "وهذا المعنى يصح على القول بأن قوله"وما أنزل "نفي بحسب توجيهنا السابق وقال البيضاوي إن معناه على وجه النفي:إنما نحن مفتونون لا تكن مثلنا .
قال تعالى{ فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه} صيغة المضارع في هذه الجملة وما قبلها لتصوير ما كان كأنه كائن فالكلام تصوير للقصة لا حكم بمضمونها أي أنهم كانوا يتعلمون منهم ما وضع لأجل التفريق بين الزوجين وهو نحو ما يسميه الدجاجلة الآن"كتاب البغضة "وليس في العبارة ما يدل على أن ما يتعلمونه لهذا الغرض هو مؤثر فيه بطبعه أو بسبب خفي أو بخارقة لا تعقل لها علة ولا أنه غير مؤثر ، وليس فيها بيان لما يتعلمونه هل هو كتابة تمائم ، أو تلاوة رقى وعزائم ، أو أساليب سعاية ، أو دسائس تنفير ونكاية ، أو تأثير نفساني ، أو وسواس شيطاني ؟ وأي شيء من ذلك ثبت علما كان تفصيلا لما أجمله القرآن في الواقع .ولا يجوز لنا أن نتحكم بتفصيل ما أجمله القرآن فنحمله على أحد ما ذكر أو على غيره .ولو علم الله أن الخير لنا في بيان ذلك لبينه كما قلناه في مثله مرارا .
لم يبين القرآن ذلك الإجمال ولا حقيقة ذلك العلم لأنه موكول إلى بحث البشر واتقائهم في العلم كما تقدم ، ولكنه لم يهمل ما يتعلق بالعقائد وبيان الحق فيها .ولذلك قال بعد حكاية السحر عنهم{ وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} أي أنهم ليس لهم قوة غيبية وراء الأسباب التي ربط الله بها المسببات فهم يفعلون بها ما يوهمون الناس أنه فوق استعداد البشر ، وفوق ما منعوا من القوى والقدر ، فإذا اتفق أن أصيب أحد بضرر من أعمالهم فإنما ذلك بإذن الله أي بسبب من الأسباب التي جرت العادة بأن تحصل المسببات من ضر ونفع عند حصولها بإذن الله تعالى .وهذا الحكم التوحيدي هو المقصد الأول من مقاصد الدين فالقرآن لا يترك بيانه عند الحاجة بل يبينه عند كل مناسبة وربما ترد في القرآن قصة مثل هذه القصة لأجل بيان الحق في مسألة اعتقادية كهذه المسألة لأن إيراد الأحكام في سياق الوقائع أوقع في النفس وأعصى على التأويل والتحريف .
ثم قال بعد نفي القوة التي وراء الأسباب عنهم{ ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم} يضرهم لأنه سبب في الإضرار بالناس وهو محرم يعاقب الله تعالى عليه في الآخرة ومن عرف بإيذاء الناس يمقته الناس ويكونون عليه .ولم كان بعض الضار من جهة نافعا من جهة أخرى وربما كانت منفعته أكبر من إثمه نفى المنفعة بعد إثبات المضرة ، فهذا النفي واجب في قانون البلاغة لا بد منه .وقد صدق الله تعالى فإننا نرى منتحلي السحر وما في معناه أفقر الناس وأحقرهم ، ولو عقل السفهاء الذين يختلفون إليهم يلتمسون المنافع لأنفسهم والإيقاع لأعبائهم لعلموا أن الشقي في نفسه لا يمكن أن يهب السعادة لغيره ، لأن فاقد الشيء لا يعطيه .هذه حالهم في الدنيا فكيف يكونون في الآخرة يوم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون .لا جرم أنها تكون سوءى ، واليهود يعلمون ذلك كما قال{ ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق} أي إنهم يعلمون أن من اختار هذا واستبدله بما آتاه الله من أصول الدين الحق وأحكام الشريعة العادلة الموصلين إلى سعادة الدنيا والآخرة فليس له نصيب في نعيم الآخرة ، وذلك أن التوراة قد حظرت تعليم السحر وجعلته كعبادة الأوثان وشددت العقوبة على فاعله وعلى اتباع الجن والشياطين والكهان ، ولا ينافي هذا العلم قوله{ ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} فإن العلم علمان – علم تفصيلي متمكن من النفس متسلط على إرادتها يحركها إلى العمل .وعلم إجمالي يلوح في الذهن مبهما عند ما يعرض ما يذكر به ككتاب وإلقاء سؤال ، وهو يقبل التحريف والتأويل ، وليس له منفذ إلى الإرادة ولا سبيل ، فقد كانوا يستحلون أكل السحت كالرشوة والربا بالتأويل كما يفعل غيرهم اليوم وقبل اليوم .ولو كانوا يعلمون حرمة ما ذكر علما تفصيليا يستغرق جميع جزيئات المحرم ويفقهون علة التحريم وسره ويصدقون بما توعد الله مرتكبه من العقوبة في الآخرة تصديقا جازما ويتذكرونه وقت العمل بما للعقيدة من السلطان على الإرادة لما ارتكبوا ما ارتكبوه مع الإصرار عليه ، ولكنهم فقدوا هذا النوع من العلم ولم يغن عنهم تصور أن السحر والخداع كلاهما حرام كالربا والرشوة لأن في الكتاب عبارة تدل على ذلك فإن العبارة تحتمل ضروبا من التأويل ككون النهي خاصا بمعاملة شعب إسرائيل وكانوا يقولون ( ليس علينا في الأميين سبيل ) إذا أكلنا أموالهم بالباطل ، وكاشتراط الضرر في السحر مع ادعاء أن ما يأتونه منه نافع غير ضار وغير ذلك .
وإننا نرى كثير من الحرمات قد انتهكت في المسلمين بمثل تلك التأويلات حتى جوز بعض المشتغلين بالفقه هدم ركن من أعظم أركان الإسلام بالحيلة وهو ركن الزكاة الذي يحارب تاركوه شرعا ، وترى هذه الحيل قد أثرت في الأمة أسوأ التأثر فقلما يوجد فيها غني يؤدى الزكاة .ولا يعتقد المتمسك بالدين من هؤلاء الأغنياء أنه متعرض لمقت الله وعقوبته ، وأنه قد فسق عن أمر ربه ، لأنه يمنع الزكاة بحيلة يسميها شرعية ، وقد أخذها عمن يسمون فقهاء ، ويفتخرون بأنهم ورثة الأنبياء ، ثم إن الحيل على التزوير وأكل أموال الناس بالباطل لها في بعض الكتب وعلى ألسنة كثيرين من أصحاب العمائم مجال واسع وميدان فسيح ، ولها أقبح التأثير في إفساد العامة واستباحتهم المحظورات ، ولقد صارت هذه الحيل على الله عز وجل والتأويلات الباطلة الهادمة لدينه معدودة من علم الدين حتى إنه ليأتيها من لا منفعة له في إتيانها ممن يعدون صالحين ، ومن أعجب ذلك أن بعض أهل العلم الصالحين يشهد الزور بمثل هذه التأويلات ، وقد نقل الثقات أن طالب الشهادة يستعطفه ويستميل قلبه بالشكوى من الظلم وإرادة الاستعانة بشهادة على دفع المظلمة والتخلص من الأذى فيأمر الشيخ بأن تطوى الورقة المشتملة على قول الزور بحيث يحجب سواد الكتابة فلا يراه ويضع توقيعه وختمه في ذيلها كأن وضعهما على ورقة خالية ، وهو يعلم أنها ليست خالية من الكتابة ، ويعرف ما فيها من الكذب .فهل نقول إنه غير عالم بقوله تعالى{ والذين لا يشهدون الزور} وقوله{ إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون} وبما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وكان متكئا"ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ الإشراك بالله وعقوق الوالدين – ثم قعد فقال – ألا وقول الزور وشهادة الزور "فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت .وبما روياه من حديث أبي هريرة مرفوعا أيضا"آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان "وفي رواية لغيرهما"ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وحج واعتمر وقال إنه مسلم "وذكرهن – بلى إنه عالم بكل ذلك ولكنه التأويل أفسد على كل أهل دين دينهم .
أقول:أشار الأستاذ الإمام إلى ما كان من إقدام هذا العالم العابد على شهادة الزور واستحلالها بتلك الحيلة السخيفة وذكر أمثلة أخرى وقد تذكرت عند كتابة الحديث في المنافقين أن بعض شيوخ الأزهر المعروفين كان وعدني وعدا وأخلف فسألته به فقال:إن فقهاءنا الحنفية قالوا بأن الوفاء بالوعد غير واجب ، فقلت وقد تميزت من الغيظ:إن من يقول هذا القول بعد ما ورد من النصوص الصريحة في الوفاء وفي الوعيد على تركه فهو مخطئ وقوله مردود كما ورد في الصحيح ( بل قلت أكثر من هذا ) وأنني أبرئ الأئمة من القول بحل إخلاف الوعد من غير عذر صحيح ولكنني أعذر الفقهاء إذا قالوا بأنه ليس للقاضي أن يحكم على من وعد بالوفاء ويلزمه ذلك إلزاما ، ولا أعذر من يقول إن الوفاء مستحب وتركه جائز وإن كان هو المعروف في أكثر كتب الفقه المتداولة .
ولقد صار العالم المسلم عاجزا في أكثر بلاد المسلمين عن إنكار ما يخالف هدى الكتاب والسنة من كتب الميتين لا سيما إذا اشتهروا باختيار كتبهم للتدريس .وحجة هؤلاء المقلدين على نصر كتب الميتين وترجيحها على كتاب الله وسنة رسوله هي أن القادرين على الاهتداء بهما قد انقرضوا فوجب على المسلمين ترك العمل بهما والاعتماد على كتب العلماء المتأخرين الذين استنبطوا من قواعد أئمتهم جميع مسائل الدين ، فعلينا أن نأخذ بكل ما قالوا ، وأن لا ننظر في الكتاب والسنة إلا للتبرك بهما ، فإن رأينا خلافا بين قول الله ورسوله وقول الفقيه لا يحتمل التأويل فعلينا أن نتهم عقولنا وأفهامنا وننزه فهم الفقيه الميت وعقله ونعمل بقوله مكابرين أنفسنا التي سجل عليها الحرمان من فهم الكتاب المبين والسنة البيضاء التي وصفها صاحبها بأن ليلها كنهارها أي لا يشتبه فيها أحد ! ! ! هذا ما عليه جماهير المسلمين ، ولم يبعد من قبلهم عن كتاب ربهم أشد من هذا البعد ، وسيعودون إليه بعد حين ، فقد أخذهم العذاب على تركه ( وكان حقا علينا نصر المؤمنين ) .
/خ103