وأما تفسيرها فقوله تعالى:( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) أي:من عادى جبريل فليعلم أنه الروح الأمين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله بإذنه له في ذلك ، فهو رسول من رسل الله ملكي [ عليه وعلى سائر إخوانه من الملائكة السلام] ومن عادى رسولا فقد عادى جميع الرسل ، كما أن من آمن برسول فإنه يلزمه الإيمان بجميع الرسل ، وكما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل ، كما قال تعالى:( إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ) [ النساء:150 ، 151] فحكم عليهم بالكفر المحقق ، إذ آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم وكذلك من عادى جبريل فإنه عدو لله ; لأن جبريل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه ، وإنما ينزل بأمر ربه كما قال:( وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا ) [ مريم:64] وقال تعالى:( وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين ) [ الشعراء:192 - 194] وقد روى البخاري في صحيحه ، عن أبي هريرة ، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب ". ولهذا غضب الله لجبريل على من عاداه ، فقال:( من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه ) أي:من الكتب المتقدمة ( وهدى وبشرى للمؤمنين ) أي:هدى لقلوبهم وبشرى لهم بالجنة ، وليس ذلك إلا للمؤمنين . كما قال تعالى:( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ) [ فصلت:44] ، وقال تعالى:( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) [ الإسراء:82] .
ثم قال تعالى:( من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين ) يقول تعالى:من عاداني وملائكتي ورسلي ، ورسله تشمل رسله من الملائكة والبشر ، كما قال تعالى:( الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ) [ الحج:75] .
( وجبريل وميكال ) وهذا من باب عطف الخاص على العام ، فإنهما دخلا في الملائكة ، ثم عموم الرسل ، ثم خصصا بالذكر ; لأن السياق في الانتصار لجبريل وهو السفير بين الله وأنبيائه ، وقرن معه ميكائيل في اللفظ ; لأن اليهود زعموا أن جبريل عدوهم وميكائيل وليهم ، فأعلمهم أنه من عادى واحدا منهما فقد عادى الآخر وعادى الله أيضا ; لأنه أيضا ينزل على الأنبياء بعض الأحيان ، كما قرن برسول الله صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر ، ولكن جبريل أكثر ، وهي وظيفته ، وميكائيل موكل بالقطر والنبات ، هذاك بالهدى وهذا بالرزق ، كما أن إسرافيل موكل بالصور للنفخ للبعث يوم القيامة ; ولهذا جاء في الصحيح:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يقول "اللهم رب جبريل وإسرافيل وميكائيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ". وقد تقدم ما حكاه البخاري ، ورواه ابن جرير عن عكرمة أنه قال:جبر ، وميك ، وإسراف:عبيد . وإيل:الله .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن عمير مولى ابن عباس ، عن ابن عباس ، قال:إنما قوله:"جبريل "كقوله:"عبد الله "و "عبد الرحمن ". وقيل جبر:عبد . وإيل:الله .
وقال محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين ، قال:أتدرون ما اسم جبرائيل من أسمائكم ؟ قلنا:لا . قال:اسمه عبد الله ، قال:فتدرون ما اسم ميكائيل من أسمائكم ؟ قلنا:لا . قال:اسمه عبيد الله . وكل اسم مرجعه إلى "يل "فهو إلى الله .
قال ابن أبي حاتم:وروي عن مجاهد وعكرمة والضحاك ويحيى بن يعمر نحو ذلك . ثم قال:حدثني أبي ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري ، حدثني عبد العزيز بن عمير قال:اسم جبريل في الملائكة خادم الله . قال:فحدثت به أبا سليمان الداراني ، فانتفض وقال:لهذا الحديث أحب إلي من كل شيء [ وكتبه] في دفتر كان بين يديه .
وفي جبريل وميكائيل لغات وقراءات ، تذكر في كتب اللغة والقراءات ، ولم نطول كتابنا هذا بسرد ذلك إلا أن يدور فهم المعنى عليه ، أو يرجع الحكم في ذلك إليه ، وبالله الثقة ، وهو المستعان .
وقوله تعالى:( فإن الله عدو للكافرين ) فيه إيقاع المظهر مكان المضمر حيث لم يقل:فإنه عدو للكافرين . قال:( فإن الله عدو للكافرين ) كما قال الشاعر:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
وقال آخر:
ليت الغراب غداة ينعب دائبا كان الغراب مقطع الأوداج
وإنما أظهر الاسم هاهنا لتقرير هذا المعنى وإظهاره ، وإعلامهم أن من عادى أولياء الله فقد عادى الله ، ومن عادى الله فإن الله عدو له ، ومن كان الله عدوه فقد خسر الدنيا والآخرة ، كما تقدم الحديث:"من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب ". وفي الحديث الآخر:"إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب ". وفي الحديث الصحيح:"ومن كنت خصمه خصمته ".