( إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ) أي:خاضعون مستجيبون مطيعون ، فأولئك هم الذين يستمعون الحق ويتبعونه ، وهذا حال المؤمنين ، والأول مثل الكافرين ، كما قال تعالى:( إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون ) [ الأنعام:36] .
وقد استدلت أم المؤمنين عائشة ، رضي الله عنها ، بهذه الآية:( إنك لا تسمع الموتى ) ، على توهيم عبد الله بن عمر في روايته مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم القتلى الذين ألقوا في قليب بدر ، بعد ثلاثة أيام ، ومعاتبته إياهم وتقريعه لهم ، حتى قال له عمر:يا رسول الله ، ما تخاطب من قوم قد جيفوا ؟ فقال:"والذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكن لا يجيبون ". وتأولته عائشة على أنه قال:"إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق ".
وقال قتادة:أحياهم الله له حتى سمعوا مقالته تقريعا وتوبيخا ونقمة .
والصحيح عند العلماء رواية ابن عمر ، لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة ، من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححا [ له] ، عن ابن عباس مرفوعا:"ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم ، كان يعرفه في الدنيا ، فيسلم عليه ، إلا رد الله عليه روحه ، حتى يرد عليه السلام ".
[ وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له ، إذا انصرفوا عنه ، وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول المسلم:السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل ، ولولا هذا الخطاب لكانوا بمنزلة خطاب المعدوم والجماد ، والسلف مجمعون على هذا ، وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف بزيارة الحي له ويستبشر ، فروى ابن أبي الدنيا في كتاب القبور عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده ، إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم ".
وروي عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال:إذا مر رجل بقبر يعرفه فسلم عليه ، رد عليه السلام .
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن رجل من آل عاصم الجحدري قال:رأيت عاصما الجحدري في منامي بعد موته بسنتين ، فقلت:أليس قد مت ؟ قال:بلى ، قلت:فأين أنت ؟ قال:أنا - والله - في روضة من رياض الجنة ، أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المزني ، فنتلقى أخباركم . قال:قلت:أجسامكم أم أرواحكم ؟ قال:هيهات! قد بليت الأجسام ، وإنما تتلاقى الأرواح ، قال:قلت:فهل تعلمون بزيارتنا إياكم ؟ قال:نعلم بها عشية الجمعة ويوم الجمعة كله ويوم السبت إلى طلوع الشمس ، قال:قلت:فكيف ذلك دون الأيام كلها ؟ قال:لفضل يوم الجمعة وعظمته .
قال:وحدثنا محمد بن الحسين ، ثنا بكر بن محمد ، ثنا حسن القصاب قال:كنت أغدو مع محمد بن واسع في كل غداة سبت حتى نأتي أهل الجبان ، فنقف على القبور فنسلم عليهم ، وندعو لهم ثم ننصرف ، فقلت ذات يوم:لو صيرت هذا اليوم يوم الاثنين ؟ قال:بلغني أن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة ويوما قبلها ويوما بعدها . قال:ثنا محمد ، ثنا عبد العزيز بن أبان قال:ثنا سفيان الثوري قال:بلغني عن الضحاك أنه قال:من زار قبرا يوم السبت قبل طلوع الشمس علم الميت بزيارته ، فقيل له:وكيف ذلك ؟ قال:لمكان يوم الجمعة .
حدثنا خالد بن خداش ، ثنا جعفر بن سليمان ، عن أبي التياح يقول:كان مطرف يغدو ، فإذا كان يوم الجمعة أدلج . قال:وسمعت أبا التياح يقول:بلغنا أنه كان ينزل بغوطة ، فأقبل ليلة حتى إذا كان عند المقابر يقوم وهو على فرسه ، فرأى أهل القبور كل صاحب قبر جالسا على قبره ، فقالوا:هذا مطرف يأتي الجمعة ويصلون عندكم يوم الجمعة ؟ قالوا:نعم ، ونعلم ما يقول فيه الطير . قلت:وما يقولون ؟ قال:يقولون سلام عليكم; حدثني محمد بن الحسن ، ثنا يحيى بن أبي بكر ، ثنا الفضل بن الموفق ابن خال سفيان بن عيينة قال:لما مات أبي جزعت عليه جزعا شديدا ، فكنت آتي قبره في كل يوم ، ثم قصرت عن ذلك ما شاء الله ، ثم إني أتيته يوما ، فبينا أنا جالس عند القبر غلبتني عيناي فنمت ، فرأيت كأن قبر أبي قد انفرج ، وكأنه قاعد في قبره متوشح أكفانه ، عليه سحنة الموتى ، قال:فكأني بكيت لما رأيته . قال:يا بني ، ما أبطأ بك عني ؟ قلت:وإنك لتعلم بمجيئي ؟ قال:ما جئت مرة إلا علمتها ، وقد كنت تأتيني فأسر بك ويسر من حولي بدعائك ، قال:فكنت آتيه بعد ذلك كثيرا .
حدثني محمد ، حدثنا يحيى بن بسطام ، ثنا عثمان بن سويد الطفاوي قال:وكانت أمه من العابدات ، وكان يقال لها:راهبة ، قال:لما احتضرت رفعت رأسها إلى السماء فقالت:يا ذخري وذخيرتي من عليه اعتمادي في حياتي وبعد موتي ، لا تخذلني عند الموت ولا توحشني . قال:فماتت . فكنت آتيها في كل جمعة فأدعو لها وأستغفر لها ولأهل القبور ، فرأيتها ذات يوم في منامي ، فقلت لها:يا أمي ، كيف أنت ؟ قالت:أي بني ، إن للموت لكربة شديدة ، وإني بحمد الله لفي برزخ محمود يفرش فيه الريحان ، ونتوسد السندس والإستبرق إلى يوم النشور ، فقلت لها:ألك حاجة ؟ قالت:نعم ، قلت:وما هي ؟ قالت:لا تدع ما كنت تصنع من زياراتنا والدعاء لنا ، فإني لأبشر بمجيئك يوم الجمعة إذا أقبلت من أهلك ، يقال لي:يا راهبة ، هذا ابنك ، قد أقبل ، فأسر ويسر بذلك من حولي من الأموات .
حدثني محمد ، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن سليمان ، حدثنا بشر بن منصور قال:لما كان زمن الطاعون كان رجل يختلف إلى الجبان ، فيشهد الصلاة على الجنائز ، فإذا أمسى وقف على المقابر فقال:آنس الله وحشتكم ، ورحم غربتكم ، وتجاوز عن مسيئكم ، وقبل حسناتكم ، لا يزيد على هؤلاء الكلمات ، قال:فأمسيت ذات ليلة وانصرفت إلى أهلي ولم آت المقابر فأدعو كما كنت أدعو ، قال:فبينا أنا نائم إذا بخلق قد جاءوني ، فقلت:ما أنتم وما حاجتكم ؟ قالوا:نحن أهل المقابر ، قلت:ما حاجتكم ؟ قالوا:إنك عودتنا منك هدية عند انصرافك إلى أهلك ، قلت:وما هي ؟ قالوا:الدعوات التي كنت تدعو بها ، قال:قلت فإني أعود لذلك ، قال:فما تركتها بعد .
وأبلغ من ذلك أن الميت يعلم بعمل الحي من أقاربه وإخوانه . قال عبد الله بن المبارك:حدثني ثور بن يزيد ، عن إبراهيم ، عن أيوب قال:تعرض أعمال الأحياء على الموتى ، فإذا رأوا حسنا فرحوا واستبشروا وإن رأوا سوءا قالوا:اللهم راجع به .
وذكر ابن أبي الدنيا عن أحمد بن أبي الحوارى قال:ثنا محمد أخي قال:دخل عباد بن عباد على إبراهيم بن صالح وهو على فلسطين فقال:عظني ، قال:بم أعظك ، أصلحك الله ؟ بلغني أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم من الموتى ، فانظر ما يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم من عملك ، فبكى إبراهيم حتى أخضل لحيته . قال ابن أبي الدنيا:وحدثني محمد بن الحسين ، ثنا خالد بن عمرو الأموي ، ثنا صدقة بن سليمان الجعفري قال:كانت لي شرة سمجة ، فمات أبي فتبت وندمت على ما فرطت ، ثم زللت أيما زلة ، فرأيت أبي في المنام ، فقال:أي بني ، ما كان أشد فرحي بك وأعمالك تعرض علينا ، فنشبهها بأعمال الصالحين ، فلما كانت هذه المرة استحييت لذلك حياء شديدا ، فلا تخزني فيمن حولي من الأموات ، قال:فكنت أسمعه بعد ذلك يقول في دعائه في السحر ، وكان جارا لي بالكوفة:أسألك إيابة لا رجعة فيها ولا حور ، يا مصلح الصالحين ، ويا هادي المضلين ، ويا أرحم الراحمين .
وهذا باب فيه آثار كثيرة عن الصحابة . وكان بعض الأنصار من أقارب عبد الله بن رواحة يقول:اللهم إني أعوذ بك من عمل أخزى به عند عبد الله بن رواحة ، كان يقول ذلك بعد أن استشهد عبد الله .
وقد شرع السلام على الموتى ، والسلام على من لم يشعر ولا يعلم بالمسلم محال ، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته إذا رأوا القبور أن يقولوا:"سلام عليكم أهل الديار من المؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين ، نسأل الله لنا ولكم العافية "، فهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويرد ، وإن لم يسمع المسلم الرد ، والله أعلم] .