وتأتي الآية الثّانية لبيان بقية الطوائف فتقول: ( وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلاّ من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ) .
وكما قلنا من قبل ،فإنّ القرآن لديه ما هو أفضل من «الحياة والموت الماديين والجسمانيين » وأفضل من السمع والبصر الظاهريين فلديه نوع أسمى من هذه الحياة والموت والسمع والبصر ،وتكمن فيها سعادة الإنسان أو شقاؤه !
فالقرآن لديه معيار لتقييم هذه الأمور ،لا بالقيمة المادية والفيزيائية ،بل القيمة المعنوية والإنسانية .
والشرط الأوّل لإدراك الحقيقة أن يكون للإنسان قلب مهيأ ومستعد ،وعين باصرة وأذن سميعة ،وإلاّ فلو اجتمع جميع الأنبياء والأولياء وتلوا جميع الآيات الإلهية على من لا يدرك الحقيقة لما اقترفه من الذنوب واللجاجة والعناد ،فإنها لن تؤثر فيه !.
وإنّما أشار القرآن إلى هاتين الحاستين الظاهرتين ،بالإضافة إلى الإدراك الباطني فحسب ،فلأجل أن أكثر معلومات الإنسان ،إمّا أن يكون عن طريق هاتين الحاستين [ العين والأذن] ،أو عن طريق الوجدان والتحليل العقلي !
والطريف هنا أنّ المراحل الثلاثالواردة في الآيات الآنفة الذكرهي ثلاث مراحل مختلفة من الانحراف وعدم درك الحقيقة ،وهي تبدأ من شديدها وتنتهي بالخفيف منها !
فالمرحلة الأولى: هي موت القلوب المعبر عنها ب «الموتى » وهذه المرحلة ليس للحقيقة أي طريق للنفوذ فيها .
والمرحلة الثّانية: مرحلة «الصمم » وعدم السمع ،ولا سيما عند أُولئك الذين يديرون ظهورهم وهم في حالة الفرار ،فقد يؤثر فيهم الصراخ الشديد لو كانوا قريبين ،لكن في مثل هذه الحال وهم يفرون ،فلا !
وبالطبع فإنّ هذه الطائفة ليست كالموتى ،فمن الممكن أحياناً أن يتمّ تفهيمهم بالإشارة أو العلامة ،إلاّ أنّنا نعرف أن كثيراً من الحقائق لا يمكن بيانها وإيصالها إلى الذهن بالإشارة !وخاصة حين يدير الطرف الآخر ظهره ويكون بعيداً .
المرحلة الثّالثة: ( العمى ) ،وبالطبع فإن الحياة مع العمي أسهل بمراتب من الحياة مع «الصُم » أو الحياة مع «الموتى » ،فعلى الأقل لديهم آذان سميعة ،ويمكن إيصال كثير من المفاهيم إليهم ...لكن أين السمع في إدراك الحقائق من البصر ؟!
ثمّ بعد هذا كلّه ،فإنّ تبيين المسائل غير كاف وحده ،فلنفرض أن يقال للأعمى سر باتجاه اليمين أو اليسار ،فإنّ تطبيق هذا الأمر ليس سهلا ،وربّما بأقل خطأأحياناًفي تحديد المقدار ،يؤدي بالأعمى إلى السقوط !
وفي بحثنا المفصل في ذيل الآيتين ( 80 ) و ( 81 ) من سورة النمل ،بيّناضمن التحليل لحقيقة الحياة والموتالإشكال الواهي الذي أثاره جماعة من الوهابيين ،إذ يستعينون بمثل هذه الآياتمحل البحث وغيرهالإثبات عدم جواز التوسل بالنّبي والأئمّة الطاهرين ،ويقولون: إنّ الموتى ( حتى النّبي ) لا يفهمون شيئاً .
غير أنّنا أثبتنا هناك أن الإنسانخاصّة من هو بمستوى الأئمة الكرام والشهداء العظامله نوع من الحياة البرزخية بعد الموت ،وهناك وثائق كثيرة وأدلة متعددة من القرآن والأحاديث تشهد بذلك وتؤيده ،وفي هذه الحياة البرزخية إدراك وبصر أوسع من الحياة الدنيوية ( لمزيد الإيضاح يراجع التّفسير الأمثل ،ذيل الآيات المشار إليها آنفاً ) .
وهنا ينبغي أن نضيف هذه الجملة ،وهي أن جميع المسلمين في صلاتهمدائماًيخاطبون النّبي( صلى الله عليه وآله ) ويسلمون عليه بهذه الجملة «السلام عليك أيّها النّبي ورحمة الله وبركاته » ونعرف أنّ المخاطبة الحقيقة لا المجازية يجب أن تكونحتماًمع إنسان يسمع ويدرك !
فعلى هذا الأساس لازم السلام على النّبي بهيأة المخاطبة من بعيد أو قريب ،أن روحه المقدسة تسمع جميع هذه التحيات ،ولا دليل يقودنا إلى أن نحمل هذه التحيات على المجاز !.