وفي آخر آيةمن الآيات محل البحثيشير القرآن إلى دليل آخر من أدلة التوحيد ،وهو دليل الفقر والغنى ،ويكمل البحوث التي تدور حول التوحيد في هذه السورة ،فيقول: ( الله الذي خلقكم من ضعف ثمّ جعل من بعد ضعف قوة ثمّ جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة ) .
كنتم في البداية ضعافاً إلى درجة أنّكم لم تكن لكم القدرة على طرد الذباب عنكم ،أو أن تحافظوا على لعاب أفواهكم أن يسيل ،هذا من الناحية الجسمية ،أمّا من الناحية الفكرية فمصداقه قوله تعالى: ( لا تعلمون شيئاً ) بحيث لم تعرفوا حتى أبويكم المشفقين عليكم .
لكنقليلا قليلاصرتم ذوي رشد وقوّة ،وصار لكم جسم قوي ،وفكر جيد ،وعقل مقتدر إدراك واسع !
ومع هذه الحال لم تستطيعوا أن تحافظوا على هذه القوّة ،فمثلكم كمن يصعد من طرف الجبل إلى قمته ،ثمّ يبدأ بالانحدار من القمة إلى قعر الوادي ،الذي يمثل «مرحلة ضعف الجسم والروح » .
هذا التغير والصعود والنّزول خير دليل لهذه الحقيقة ،وهي أنّه لم تكن القوّة من عندكم ولا الضعف ،فكل منهما كان من جهة أُخرى ،وهذا بنفسه دليل على أن وراءكم من يدبّر أموركم ويسيّر حياتكم وما عندكم فهو أمر عارض !
وهذا هو ما أشار إليه الإمام أمير المؤمنين( عليه السلام ) في كلامه النيّر إذ قال: «عرفت الله بفسخ العزائم وحل العقود ونقض الهمم »{[3234]} .
لقد عرفت من هذا الاختلاف والتغير أن القوة الأصلية ليست بأيدينا ،فهي بيد الله ،وليس لدينا بنحو مستقل أي شيء سوى ما وهبنا إيّاه !
ومن الطريف أنّ القرآن يضيفعند بيان الضعف الثّاني للإنسانكلمة ( وشيبة ) غير أنّه لم يذكر «الطفولة » في الضعف الأول ...
وهذا التعبير ربّما كان إشارة إلى أن ضعف الشيخوخة والشيب أشدّ ألماً ،لأنّه على العكس من ضعف الطفولة ،إذ يتجه نحو الفناء والموت ...هذا أوّلا .
وثانياً فإن ما يتوقع من الشيبة والمسنين مع ما لهم تجارب ليس كما يتوقع من الأطفال ،على حين أن ضعف كل منهما مشابه للآخر ،وهذا الموضوع يدعوا إلى الاعتبار كثيراً .
فهذه المرحلة هي التي تدفع الأقوياء والطغاة إلى الانحناء ،وتجرهم إلى الضعف والذلة !
أمّا آخر جملة في الآية فهي إشارة إلى علم الله الواسع وقدرته المطلقة: ( يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ) وهي بشارة وإنذار في الوقت ذاته ،أي إن الله مطلع على جميع نيّاتكم ،وهو قدير على مجازاتكم وثوابكم !