التّفسير
يوم لا ينفع الاعتذار:
قلنا إن في هذه السورة أبحاثاً منسجمة ومتناغمة تتعلق بالمبدأ والمعاد ..وفي الآياتمحل البحثيعقب القرآن على البحوث التي كانت حول المبدأ والمعاد أيضاً ،فيعود إلى بيان مشهد من مشاهد يوم القيامة الأليمة ،وذلك بتجسيمه حالة المجرمين في ذلك اليوم ،إذ يقول: ( ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة ) في عالم البرزخ أجل ( كذلك كانوا يؤفكون ) فإنّهم فيما سبق كانوا محرومين من إدراك الحقائق ومصروفين عنها .
والتعبير ب «الساعة » عن يوم القيامةكما أشرنا إليه سابقاًهو إمّا لأنّ يوم القيامة يقع في لحظة مفاجئة ،أو لأنّه من جهة أن أعمال العباد تحاسب بسرعة هناك ،لأنّ الله سريع الحساب ،ونعرف أنّ «الساعة » في لغة العرب تعني جزءاً أو لحظة من الزمن{[3235]} .
وبالرغم من أنّ الآية المتقدمة لم تشر إلى مكان ( اللبث ) حتى احتمل بعضهم أنّ المراد منه هو لبثهم في الدنيا ،الذي هو في الواقع بمثابة لحظة عابرة لا أكثر ،إلاّ أنّ الآية التي بعدها دليل واضح على أن المراد منه هو اللبث في عالم البرزخ ..وعالم ما بعد الموت ..وما قبل القيامة ،لأنّ جملة ( لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث ) تنهي هذا اللبث إلى يوم القيامة ،ولا يصح هذا إلاّ في شأن البرزخ ( فلاحظوا بدقة ) .
ونعرفهنا أيضاًأن «البرزخ » ليس للجميع على شاكلة واحدة ،فقسم له في البرزخ حياة واعية ،وقسم مثلهم كمن يغط في نوم عميقفي عالم البرزخويستيقظون في يوم القيامة ،ويتصورون آلاف السنين ساعة واحدة{[3236]} .
مسألتان
الأوّل: كيف يقسم المجرمون مثل هذا القسم الكاذب ؟
والجواب واضح ،فهم يتصورونواقعاًمثل هذا التصور ،ويظنون أن فترة البرزخ كانت قصيرة جدّاً ،لأنّهم كانوا في حالة تشبه النوم ،ألا ترى أن أصحاب الكهف الذين كانوا صالحين مؤمنين ،حين أفاقوا بعد نوم طويل ،تصوروا أنّهم لبثوا يوماً أو بعض يوم في منامهم .
أو أن أحد الأنبياء الواردة قصته في سورة البقرة [ الآية 259] بعد أن أماته الله مئة عامة ثمّ بعثه للحياة ثانية ،لم يظهر في تصوره غير أنّه لبث يوماً أو بعض يوم .
فما يمنع أن يتصور المجرمونمع ملاحظة حالتهم الخاصة في عالم البرزخ وعدم إطلاعهممثل هذا التصور !؟
لذا يقول المؤمنون الذين أُوتوا العلمكما تذكره الآية التي تأتي بعد هذه الآية: إنّكم غير مُصيبين في قولكم ،إذ لبثتم في عالم البرزخ إلى يوم القيامة ،وهذا هو يوم القيامة !.
ومن هنا تتّضح المسألة الثّانية .أي تفسير جملة ( كذلك كانوا يؤفكون ) لأنّ «الإفك » في الأصل معناه تبدل الوجه الحقيقي والانصراف عن الحق ،وهذه الجماعة ابتعدت عن الواقع لحالتها الخاصة في عالم البرزخ ،فلم تستطع أن تحدد لبثها في عالم البرزخ .
ومع ملاحظة أنّه لا حاجة لنا إلى الأبحاث الطويلة التي بحثها جمع من المفسّرين ،وفي أنّه لم يكذب المجرمون عمداً في يوم القيامة ،لأنّه ليس في الآية دليل على كذبهم العمد في هذه المرحلة !.
وبالطبع فإنّنا نرى في آيات القرآن الأخر أمثلة من أكاذيب المجرمين يوم القيامة ،وقد بيّنا الإجابة المفصلة على كل ذلك في ذيل الآية ( 23 ) من سورة الأنعام ،لكن ذلك البحث لا علاقة له بموضوع هذه الآيات !