وقوله:( وهم يصطرخون فيها ) أي:ينادون فيها ، يجأرون إلى الله ، عز وجل بأصواتهم:( ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل ) أي:يسألون الرجعة إلى الدنيا ، ليعملوا غير عملهم الأول ، وقد علم الرب ، جل جلاله ، أنه لو ردهم إلى الدار الدنيا ، لعادوا لما نهوا عنه ، وإنهم لكاذبون . فلهذا لا يجيبهم إلى سؤالهم ، كما قال تعالى مخبرا عنهم في قولهم:( فهل إلى خروج من سبيل ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا ) [ غافر:11 ، 12] ، أي:لا يجيبكم إلى ذلك لأنكم كنتم كذلك ، ولو رددتم لعدتم إلى ما نهيتم عنه; ولهذا قال هاهنا:( أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ) أي:أوما عشتم في الدنيا أعمارا لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم ؟
وقد اختلف المفسرون في مقدار العمر المراد هاهنا فروي عن علي بن الحسين زين العابدين أنه قال:مقدار سبع عشرة سنة .
وقال قتادة:اعلموا أن طول العمر حجة ، فنعوذ بالله أن نعير بطول العمر ، قد نزلت هذه الآية:( أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ) ، وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة ، وكذا قال أبو غالب الشيباني .
وقال عبد الله بن المبارك ، عن معمر ، عن رجل ، عن وهب بن منبه في قوله:( أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ) قال:عشرين سنة .
وقال هشيم ، عن منصور ، عن زاذان ، عن الحسن في قوله:( أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ) قال:أربعين سنة .
وقال هشيم [ أيضا] ، عن مجاهد ، عن الشعبي ، عن مسروق أنه كان يقول:إذا بلغ أحدكم أربعين سنة ، فليأخذ حذره من الله عز وجل .
وهذه رواية عن ابن عباس فيما قال ابن جرير:حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا بشر بن المفضل ، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن مجاهد قال:سمعت ابن عباس يقول:العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم:( أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ) أربعون سنة .
هكذا رواه من هذا الوجه ، عن ابن عباس . وهذا القول هو اختيار ابن جرير . ثم رواه من طريق الثوري وعبد الله بن إدريس ، كلاهما عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال:العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم في قوله:( أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ) ستون سنة .
فهذه الرواية أصح عن ابن عباس ، وهي الصحيحة في نفس الأمر أيضا ، لما ثبت في ذلك من الحديث - كما سنورده - لا كما زعمه ابن جرير ، من أن الحديث لم يصح; لأن في إسناده من يجب التثبت في أمره .
وقد روى أصبغ بن نباتة ، عن علي ، رضي الله عنه ، أنه قال:العمر الذي عيرهم الله به في قوله تعالى:( أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ) ستون سنة .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي:حدثنا دحيم ، حدثنا ابن أبي فديك ، حدثني إبراهيم بن الفضل المخزومي ، عن ابن أبي حسين المكي ; أنه حدثه عن عطاء - هو ابن أبي رباح - عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كان يوم القيامة قيل:أين أبناء الستين ؟ وهو العمر الذي قال الله فيه:( أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير ) .
وكذا رواه ابن جرير ، عن علي بن شعيب ، عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ، به . وكذا رواه الطبراني من طريق ابن أبي فديك ، به . وهذا الحديث فيه نظر; لحال إبراهيم بن الفضل ، والله أعلم .
حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن رجل من بني غفار ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لقد أعذر الله إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة ، لقد أعذر الله إليه ، لقد أعذر الله إليه ".
وهكذا رواه الإمام البخاري في "كتاب الرقاق "من صحيحه:حدثنا عبد السلام بن مطهر ، عن عمر بن علي ، عن معن بن محمد الغفاري ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أعذر الله عز وجل إلى امرئ أخر عمره حتى بلغه ستين سنة ". ثم قال البخاري:تابعه أبو حازم وابن عجلان ، عن سعيد المقبري .
فأما أبو حازم فقال ابن جرير:حدثنا أبو صالح الفزاري ، حدثنا محمد بن سوار ، أخبرنا يعقوب بن عبد الرحمن بن عبد القاري الإسكندري ، حدثنا أبو حازم ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "[ من عمره] الله ستين سنة ، فقد أعذر إليه في العمر ".
وقد رواه الإمام أحمد والنسائي في الرقاق جميعا عن قتيبة ، عن يعقوب بن عبد الرحمن به .
ورواه البزار قال:حدثنا هشام بن يونس ، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم ، عن أبيه ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة ". يعني:( أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ) .
وأما متابعة "ابن عجلان "فقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو السفر يحيى بن محمد بن عبد الملك بن قرعة بسامراء ، حدثنا أبو عبد الرحمن المقري ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثني محمد بن عجلان ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله عز وجل إليه في العمر ". وكذا رواه الإمام أحمد عن أبي عبد الرحمن هو المقرئ ، به . ورواه أحمد أيضا عن خلف عن أبي معشر ، عن سعيد المقبري .
طريق أخرى عن أبي هريرة:قال ابن جرير:حدثني أحمد بن الفرج أبو عتبة الحمصي ، حدثنا بقية بن الوليد ، حدثنا المطرف بن مازن الكناني ، حدثني معمر بن راشد قال:سمعت محمد بن عبد الرحمن الغفاري يقول:سمعت أبا هريرة يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لقد أعذر الله عز وجل ، إلى صاحب الستين سنة والسبعين ".
فقد صح هذا الحديث من هذه الطرق ، فلو لم يكن إلا الطريق التي ارتضاها أبو عبد الله البخاري شيخ هذه الصناعة لكفت . وقول ابن جرير:( إن في رجاله بعض من يجب التثبت في أمره ) ، لا يلتفت إليه مع تصحيح البخاري ، والله أعلم .
وذكر بعضهم أن العمر الطبيعي عند الأطباء مائة وعشرون سنة ، فالإنسان لا يزال في ازدياد إلى كمال الستين ، ثم يشرع بعد هذا في النقص والهرم ، كما قال الشاعر:
إذا بلغ الفتى ستين عاما فقد ذهب المسرة والفتاء
ولما كان هذا هو العمر الذي يعذر الله إلى عباده به ، ويزيح به عنهم العلل ، كان هو الغالب على أعمار هذه الأمة ، كما ورد بذلك الحديث ، قال الحسن بن عرفة ، رحمه الله:
حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، حدثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين ، وأقلهم من يجوز ذلك ".
وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه جميعا في كتاب الزهد ، عن الحسن بن عرفة ، به . ثم قال الترمذي:هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
وهذا عجب من الترمذي ، فإنه قد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا من وجه آخر وطريق أخرى ، عن أبي هريرة حيث قال:
حدثنا سليمان بن عمر ، عن محمد بن ربيعة ، عن كامل أبي العلاء ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين ، وأقلهم من يجوز ذلك ".
وقد رواه الترمذي في "كتاب الزهد "أيضا ، عن إبراهيم بن سعيد الجوهري ، عن محمد بن ربيعة ، به . ثم قال:هذا حديث حسن غريب ، من حديث أبي صالح عن أبي هريرة ، وقد روي من غير وجه عنه . هذا نصه بحروفه في الموضعين ، والله أعلم .
وقال الحافظ أبو يعلى:حدثنا أبو موسى الأنصاري ، حدثنا ابن أبي فديك ، حدثني إبراهيم بن الفضل - مولى بني مخزوم - عن المقبري ، عن أبي هريرة ، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين ".
وبه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أقل أمتي أبناء سبعين ". إسناده ضعيف .
حديث آخر في معنى ذلك:قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده:
حدثنا إبراهيم بن هانئ ، حدثنا إبراهيم بن مهدي ، حدثنا عثمان بن مطر ، عن أبي مالك ، عن ربعي عن حذيفة أنه قال:يا رسول الله ، أنبئنا بأعمار أمتك . قال:"ما بين الخمسين إلى الستين "قالوا:يا رسول الله ، فأبناء السبعين ؟ قال:"قل من يبلغها من أمتي ، رحم الله أبناء السبعين ، ورحم الله أبناء الثمانين ".
ثم قال البزار:لا يروى بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد ، وعثمان بن مطر من أهل البصرة ليس بقوي .
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش ثلاثا وستين سنة . وقيل:ستين . وقيل:خمسا وستين سنة . والمشهور الأول ، والله أعلم .
وقوله:( وجاءكم النذير ):روي عن ابن عباس ، وعكرمة ، وأبي جعفر الباقر ، وقتادة ، وسفيان بن عيينة أنهم قالوا:يعني الشيب .
وقال السدي ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم:يعني به الرسول صلى الله عليه وسلم وقرأ ابن زيد:( هذا نذير من النذر الأولى ) [ النجم:56] . وهذا هو الصحيح عن قتادة ، فيما رواه شيبان ، عنه أنه قال:احتج عليهم بالعمر والرسل .
وهذا اختيار ابن جرير ، وهو الأظهر ; لقوله تعالى:( ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون ) [ الزخرف:77 ، 78] ، أي:لقد بينا لكم الحق على ألسنة الرسل ، فأبيتم وخالفتم ، وقال تعالى:( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) [ الإسراء:15] ، وقال تبارك وتعالى:( كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير ) [ الملك:8 ، 9] .
وقوله:( فذوقوا فما للظالمين من نصير ) أي:فذوقوا عذاب النار جزاء على مخالفتكم للأنبياء في مدة أعماركم ، فما لكم اليوم ناصر ينقذكم مما أنتم فيه من العذاب والنكال والأغلال .