ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة التي بها تقوم السماء والأرض عن أمره ، وما جعل فيهما من القوة الماسكة لهما ، فقال:( إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ) أي:أن تضطربا عن أماكنهما ، كما قال:( ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ) [ الحج:65] ، وقال تعالى:( ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ) [ الروم:25] ( ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ) أي:لا يقدر على دوامهما وإبقائهما إلا هو ، وهو مع ذلك حليم غفور ، أي:يرى عباده وهم يكفرون به ويعصونه ، وهو يحلم فيؤخر وينظر ويؤجل ولا يعجل ، ويستر آخرين ويغفر ; ولهذا قال:( إنه كان حليما غفورا ) .
وقد أورد ابن أبي حاتم هاهنا حديثا غريبا بل منكرا ، فقال:حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثني هشام بن يوسف ، عن أمية بن شبل ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن أبي هريرة قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى ، عليه السلام على المنبر قال:"وقع في نفس موسى عليه السلام:هل ينام الله عز وجل فأرسل الله إليه ملكا ، فأرقه ثلاثا ، وأعطاه قارورتين ، في كل يد قارورة ، وأمره أن يحتفظ بهما . قال:فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان ، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما عن الأخرى ، حتى نام نومه ، فاصطفقت يداه فتكسرت القارورتان . قال:ضرب الله له مثلا إن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض ".
والظاهر أن هذا الحديث ليس بمرفوع ، بل من الإسرائيليات المنكرة فإن موسى عليه السلام أجل من أن يجوز على الله سبحانه وتعالى النوم ، وقد أخبر الله تعالى في كتابه العزيز بأنه:( الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض ) [ البقرة:255] . وثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار ، وعمل النهار قبل الليل ، حجابه النور أو النار ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ".
وقد قال أبو جعفر بن جرير:حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي وائل قال:جاء رجل إلى عبد الله - هو ابن مسعود - فقال:من أين جئت ؟ قال:من الشام . قال:من لقيت ؟ قال:لقيت كعبا . قال:ما حدثك كعب ؟ قال:حدثني أن السماوات تدور على منكب ملك . قال:أفصدقته أو كذبته ؟ قال:ما صدقته ولا كذبته . قال:لوددت أنك افتديت من رحلتك إليه براحلتك ورحلها ، كذب كعب . إن الله تعالى يقول:( إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ) .
وهذا إسناد صحيح إلى كعب وإلى ابن مسعود . ثم رواه ابن جرير عن ابن حميد ، عن جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال:ذهب جندب البجلي إلى كعب بالشام ، فذكر نحوه . وقد رأيت في مصنف الفقيه يحيى بن إبراهيم بن مزين الطليطلي ، سماه "سير الفقهاء "، أورد هذا الأثر عن محمد بن عيسى بن الطباع ، عن وكيع ، عن الأعمش ، به . ثم قال:وأخبرنا زونان - يعني:عبد الملك بن الحسن - عن ابن وهب ، عن مالك أنه قال:السماء لا تدور . واحتج بهذه الآية ، وبحديث:"إن بالمغرب بابا للتوبة لا يزال مفتوحا حتى تطلع الشمس منه ".
قلت:وهذا الحديث في الصحيح ، والله أعلم .