قال الله تعالى:( فلما أسلما وتله للجبين ) أي:فلما تشهدا وذكرا الله تعالى إبراهيم على الذبح والولد على شهادة الموت . وقيل:( أسلما ) ، [ يعني]:استسلما وانقادا ; إبراهيم امتثل أمر الله ، وإسماعيل طاعة الله وأبيه . قاله مجاهد ، وعكرمة والسدي ، وقتادة ، وابن إسحاق ، وغيرهم .
ومعنى ( وتله للجبين ) أي:صرعه على وجهه ليذبحه من قفاه ، ولا يشاهد وجهه عند ذبحه ، ليكون أهون عليه ، قال ابن عباس ، ومجاهد وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وقتادة:( وتله للجبين ):أكبه على وجهه .
وقال الإمام أحمد:حدثنا سريج ويونس قالا حدثنا حماد بن سلمة ، عن أبي عاصم الغنوي ، عن أبي الطفيل ، عن ابن عباس أنه قال:لما أمر إبراهيم بالمناسك عرض له الشيطان عند السعي ، فسابقه فسبقه إبراهيم ، ثم ذهب به جبريل إلى جمرة العقبة ، فعرض له الشيطان ، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات ، وثم تله للجبين ، وعلى إسماعيل قميص أبيض ، فقال له:يا أبت ، إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره ، فاخلعه حتى تكفنني فيه . فعالجه ليخلعه ، فنودي من خلفه:( أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا ) ، فالتفت إبراهيم فإذا بكبش أبيض أقرن أعين . قال ابن عباس:لقد رأيتنا نتبع ذلك الضرب من الكباش .
وذكر تمام الحديث في "المناسك "بطوله . ثم رواه أحمد بطوله عن يونس ، عن حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، فذكر نحوه إلا أنه قال:"إسحاق ". فعن ابن عباس في تسمية الذبيح روايتان ، والأظهر عنه إسماعيل ، لما سيأتي بيانه .
وقال محمد بن إسحاق ، عن الحسن بن دينار ، عن قتادة ، عن جعفر بن إياس ، عن ابن عباس في قوله:( وفديناه بذبح عظيم ) قال:خرج عليه كبش من الجنة . قد رعى قبل ذلك أربعين خريفا ، فأرسل إبراهيم ابنه واتبع الكبش ، فأخرجه إلى الجمرة الأولى ، فرماه بسبع حصيات فأفلته عندها ، فجاء الجمرة الوسطى فأخرجه عندها ، فرماه بسبع حصيات ثم أفلته فأدركه عند الجمرة الكبرى ، فرماه بسبع حصيات فأخرجه عندها . ثم أخذه فأتى به المنحر من منى فذبحه ، فوالذي نفس ابن عباس بيده لقد كان أول الإسلام ، وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة قد حش ، يعني:يبس .
وقال عبد الرزاق:أخبرنا معمر ، عن الزهري ، أخبرنا القاسم قال:اجتمع أبو هريرة وكعب ، فجعل أبو هريرة يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجعل كعب يحدث عن الكتب ، فقال أبو هريرة:قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"إن لكل نبي دعوة مستجابة ، وإني قد خبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ". فقال له كعب:أنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال:نعم . قال:فداك أبي وأمي - أو:فداه أبي وأمي - أفلا أخبرك عن إبراهيم - عليه السلام - ؟ إنه لما أري ذبح ابنه إسحاق قال الشيطان:إن لم أفتن هؤلاء عند هذه لم أفتنهم أبدا . فخرج إبراهيم بابنه ليذبحه ، فذهب الشيطان فدخل على سارة ، فقال:أين ذهب إبراهيم بابنك ؟ قالت:غدا به لبعض حاجته . قال:لم يغد لحاجة ، وإنما ذهب به ليذبحه . قالت:ولم يذبحه ؟ قال:زعم أن ربه أمره بذلك . قالت:فقد أحسن أن يطيع ربه . فذهب الشيطان في أثرهما فقال للغلام:أين يذهب بك أبوك ؟ قال:لبعض حاجته . قال:إنه لا يذهب بك لحاجة ، ولكنه يذهب بك ليذبحك . قال:ولم يذبحني ؟ قال:زعم أن ربه أمره بذلك . قال:فوالله لئن كان الله أمره بذلك ليفعلن . قال:فيئس منه فلحق بإبراهيم ، فقال:أين غدوت بابنك ؟ قال لحاجة . قال:فإنك لم تغد به لحاجة ، وإنما غدوت به لتذبحه قال:ولم أذبحه ؟ قال:تزعم أن ربك أمرك بذلك . قال:فوالله لئن كان الله أمرني بذلك لأفعلن . قال:فتركه ويئس أن يطاع .
وقد رواه ابن جرير عن يونس ، عن ابن وهب ، عن يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، أن عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن جارية الثقفي أخبره ، أن كعبا قال لأبي هريرة . . . فذكره بطوله ، وقال في آخره:وأوحى الله إلى إسحاق أني أعطيتك دعوة أستجيب لك فيها . قال إسحاق:اللهم ، إني أدعو أن تستجيب لي:أيما عبد لقيك من الأولين والآخرين ، لا يشرك بك شيئا ، فأدخله الجنة .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة [ رضي الله عنه] قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"إن الله خيرني بين أن يغفر لنصف أمتي ، وبين أن أختبئ شفاعتي ، فاختبأت شفاعتي ، ورجوت أن تكفر الجم لأمتي ، ولولا الذي سبقني إليه العبد الصالح لتعجلت فيها دعوتي ، إن الله لما فرج عن إسحاق كرب الذبح قيل له:يا إسحاق ، سل تعطه . فقال:أما والذي نفسي بيده لأتعجلنها قبل نزغات الشيطان ، اللهم من مات لا يشرك بك شيئا فاغفر له وأدخله الجنة ".
هذا حديث غريب منكر . وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف الحديث ، وأخشى أن يكون في الحديث زيادة مدرجة ، وهي قوله:"إن الله تعالى لما فرج عن إسحاق "إلى آخره ، والله أعلم . فهذا إن كان محفوظا فالأشبه أن السياق إنما هو عن "إسماعيل "، وإنما حرفوه بإسحاق ; حسدا منهم كما تقدم ، وإلا فالمناسك والذبائح إنما محلها بمنى من أرض مكة ، حيث كان إسماعيل لا إسحاق [ عليهما السلام] ، فإنه إنما كان ببلاد كنعان من أرض الشام .