يخبر تعالى عن المنافقين أنهم يتربصون بالمؤمنين دوائر السوء ، بمعنى ينتظرون زوال دولتهم ، وظهور الكفر عليهم ، وذهاب ملتهم ( فإن كان لكم فتح من الله ) أي:نصر وتأييد وظفر وغنيمة ( قالوا ألم نكن معكم ) ؟ أي:يتوددون إلى المؤمنين بهذه المقالة ( وإن كان للكافرين نصيب ) أي:إدالة على المؤمنين في بعض الأحيان ، كما وقع يوم أحد ، فإن الرسل تبتلى ثم يكون لها العاقبة ( قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ) ؟ أي:ساعدناكم في الباطن ، وما ألوناهم خبالا وتخذيلا حتى انتصرتم عليهم .
وقال السدي:( نستحوذ عليكم ) نغلب عليكم ، كقوله:( استحوذ عليهم الشيطان ) [ المجادلة:19] وهذا أيضا تودد منهم إليهم ، فإنهم كانوا يصانعون هؤلاء وهؤلاء ; ليحظوا عندهم ويأمنوا كيدهم ، وما ذاك إلا لضعف إيمانهم ، وقلة إيقانهم .
قال الله تعالى:( فالله يحكم بينكم يوم القيامة ) أي:بما يعلمه منكم - أيها المنافقون - من البواطن الرديئة ، فلا تغتروا بجريان الأحكام الشرعية عليكم ظاهرا في الحياة الدنيا ، لما له [ تعالى] في ذلك من الحكمة ، فيوم القيامة لا تنفعكم ظواهركم ، بل هو يوم تبلى فيه السرائر ويحصل ما في الصدور .
وقوله:( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) قال عبد الرزاق:أنبأنا الثوري ، عن الأعمش ، عن ذر ، عن يسيع الكندي قال:جاء رجل إلى علي بن أبي طالب ، فقال:كيف هذه الآية:( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) ؟ فقال علي ، رضي الله عنه:ادنه ادنه ، ثم قال:( فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا )
وكذا روى ابن جريج عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس:( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) قال:ذاك يوم القيامة . وكذا روى السدي عن أبي مالك الأشجعي:يعني يوم القيامة . وقال السدي:( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) أي:حجة .
ويحتمل أن يكون المراد:( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) أي:في الدنيا ، بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية ، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس ، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى:( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا [ ويوم يقوم الأشهاد . يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار] ) [ غافر:51 ، 52] . وعلى هذا فيكون ردا على المنافقين فيما أملوه وتربصوه وانتظروه من زوال دولة المؤمنين ، وفيما سلكوه من مصانعتهم الكافرين ، خوفا على أنفسهم منهم إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم ، كما قال تعالى:( فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم [ يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم] نادمين ) [ المائدة:52] .
وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية الكريمة على أصح قولي العلماء ، وهو المنع من بيع العبد المسلم من الكافر لما في صحة ابتياعه من التسليط له عليه والإذلال ، ومن قال منهم بالصحة يأمره بإزالة ملكه عنه في الحال ; لقوله تعالى:( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا )