{ الذين يتربصون بكم} أي الذين ينتظرون بكم أيها المؤمنون ما يحدث من كسر أو نصر ، أو خير أو شر ، وهذا وصف للمنافقين كقوله في الآية السابقة:{ الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين}{ فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم} هذا تفصيل للتربص أي فإن نصركم الله أو فتح عليكم ادعوا أنهم كانوا معكم وأنهم منكم ، يستحقون مشاركتكم في نعمتكم:{ وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين} أي وإن كان للكافرين نصيب من الظفرلأن الحرب سجالمتّوا إليهم ومنوا عليهم ، بأنهم كانوا عونا لهم على المؤمنين بتخذيلهم ، والتواني في الحرب معهموالاستحواذ يفسرونه بالاستيلاء وهو في الأصل من الحوذ وهو السوق سمي حوذا لأن الحوذي ( السائق ) يضرب حاذيي البعير أو غيره من الدواب ، والحاذيان هما جانبا الفخذين من الوراء ، والحاذ الظهر ويطلق على جانبيه حاذيين ، وهذا الضرب من السوق يستولي به الحوذي على ما يسوقه فصاروا يطلقون الاستحواذ على الاستيلاء على الشيء والتمكن من تسخيره أو التصرف فيهفهم يقولون للكفار إننا قد استولينا عليكم ، وتمكنا من الإيقاع بكم ، ولم نفعل بل منعناكم أي جمعناكم وحفظناكم من المؤمنين .
والنكتة في التعبير عن ظفر المؤمنين بالفتح وأنه من الله ، وعن ظفر الكافرين بالنصيبهي إفادة أن العاقبة في القتال للمؤمنين ، فهم الذين يكون لهم الفتح والاستيلاء على الأمم الكافرة ولكن الحرب سجال قد يقع في أثنائها نصيب من الظفر للكافرين لا ينتهي إلى أن يكون فتحا يستولون به على المؤمنين ، وذلك أن الله تعالى وعد المؤمنين بالنصر في مثل قوله:{ وكان حقا علينا نصر المؤمنين} [ الروم:47] المقيد بقوله عز وجل:{ يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ، والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم} [ محمد:8] وإنما نصر الله أن يقصد بالحرب حماية الحق وتأييده وإعلاء كلمته ابتغاء مرضاة الله ومثوبته ، وآيته مراعاة سنن الله في أخذ أهبته ، وإعداد عدته ، التي أرشد إليها كتابه العزيز في مثل قوله:{ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل} [ الأنفال:60] وقوله:{ إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} [ الأنفال:45] وقد بينا غيره مرة كون الإيمان نفسه من أسباب النصر ، وأنه يقتضي الاستعداد وأخذ الحذر ، وإنما غلب المسلمون في هذه القرون الأخيرة وفتح الكفار بلادهم التي فتحوها هم من قبل بقوة الإيمان ، وما يقتضيه من الأعمال ، لأنهم ما عادوا يقاتلون لإعلاء كلمة الله وتأييد الحق ونشر الإسلام ، ولا عادوا يعدون ما استطاعوا من قوة كما أمرهم القرآن ، فهم يستطيعون أن ينشئوا البوارج المدرعة ، والمدافع المدمرة ، ويتعلموا ما يلزم لها وللحرب من العلوم الرياضية والطبيعية والميكانيكية ، وهي فرض عليهم ، بمقتضى قواعد دينهم ، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وقد تركوا كل ذلك بل صار أدعياء العلم فيهم ، يحرمون ذلك عليهم .
{ فالله يحكم بينكم يوم القيامة} أي يحكم بين المؤمنين الصادقين والمنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر فهنالك لا تروج دعواهم التي يدعونها عن النصر والفتح إنهم منكم:{ ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} أي أن الكافرين لا يكون لهم من حيث هم كافرون سبيلا ما على المؤمنين من حيث هم مؤمنون يقومون بحقوق الإيمان ويتبعون هديه ، وكلمة "سبيل "هنا نكرة في سياق النفي تفيد العموم وقد أخطأ من خصها بالحجة ، وسبب هذا التخصيص عدم فهم ما قررناه آنفا من كون النصر مضمونا بوعد الله وسنته للمؤمنين بشرطه الذي أشرنا إليه .وقال بعضهم إن هذا خاص بالآخرة .والصواب أنه عام فلا سبيل للكافرين على المؤمنين مطلقا وما غلب الكافرين المسلمين في الحروب والسياسة وأسبابها العلمية والعملية من حيث هم كافرون ، بل من حيث إنهم صاروا أعلم بسنن الله في خلقه وأحكم عملا بها والمسلمون تركوا ذلك كما علمت ، فليعتبر بذلك المعتبرون ! .