وقوله:( مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ) يعني:المنافقين محيرين بين الإيمان والكفر ، فلا هم مع المؤمنين ظاهرا وباطنا ، ولا مع الكافرين ظاهرا وباطنا ، بل ظواهرهم مع المؤمنين ، وبواطنهم مع الكافرين . ومنهم من يعتريه الشك ، فتارة يميل إلى هؤلاء ، وتارة يميل إلى أولئك ( كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ) الآية [ البقرة:20] .
قال مجاهد:( مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ) يعني:أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ( ولا إلى هؤلاء ) يعني:اليهود .
وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين ، تعير إلى هذه مرة ، وإلى هذه مرة ، ولا تدري أيتهما تتبع ".
تفرد به مسلم . وقد رواه عن محمد بن المثنى مرة أخرى ، عن عبد الوهاب ، فوقف به على ابن عمر ، ولم يرفعه ، قال:حدثنا به عبد الوهاب مرتين كذلك .
قلت:وقد رواه الإمام أحمد ، عن إسحاق بن يوسف بن عبيد الله ، به مرفوعا . وكذا رواه إسماعيل بن عياش وعلي بن عاصم ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعا . وكذا رواه عثمان بن محمد بن أبي شيبة ، عن عبدة ، عن عبد الله ، به مرفوعا . ورواه حماد بن سلمة ، عن عبيد الله - أو عبد الله بن عمر - عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعا . ورواه أيضا صخر بن جويرية ، عن نافع عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثله .
وقال الإمام أحمد:حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا الهذيل بن بلال ، عن ابن عبيد ، عن أبيه:أنه جلس ذات يوم بمكة وعبد الله بن عمر معه ، فقال أبي:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن مثل المنافق يوم القيامة كالشاة بين الربيضين من الغنم ، إن أتت هؤلاء نطحتها ، وإن أتت هؤلاء نطحتها "فقال له ابن عمر:كذبت . فأثنى القوم على أبي خيرا - أو معروفا - فقال ابن عمر:لا أظن صاحبكم إلا كما تقولون ، ولكني شاهد نبي الله إذ قال:كالشاة بين الغنمين . فقال:هو سواء . فقال:هكذا سمعته .
وقال أحمد:حدثنا يزيد ، حدثنا المسعودي ، عن أبي جعفر محمد بن علي قال:بينما عبيد بن عمير يقص ، وعنده عبد الله بن عمر ، فقال عبيد بن عمير:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مثل المنافق كالشاة بين ربيضين ، إذا أتت هؤلاء نطحتها ، وإذا أتت هؤلاء نطحتها ". فقال ابن عمر:ليس كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كشاة بين غنمين ". قال:فاحتفظ الشيخ وغضب ، فلما رأى ذلك ابن عمر قال:أما إني لو لم أسمعه لم أردد ذلك عليك .
طريق أخرى:عن ابن عمر ، قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن عثمان بن بودويه ، عن يعفر بن زوذى قال:سمعت عبيد بن عمير وهو يقص يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مثل المنافق كمثل الشاة الرابضة بين الغنمين ". فقال ابن عمر:ويلكم . لا تكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم . إنما قال صلى الله عليه وسلم:"مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين ".
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال:مثل المؤمن والمنافق والكافر مثل ثلاثة نفر انتهوا إلى واد ، فدفع أحدهم فعبر ، ثم وقع الآخر حتى إذا أتى على نصف الوادي ناداه الذي على شفير الوادي:ويلك . أين تذهب ؟ إلى الهلكة ؟ ارجع عودك على بدئك ، وناداه الذي عبر:هلم إلى النجاة . فجعل ينظر إلى هذا مرة وإلى هذا مرة ، قال:فجاءه سيل فأغرقه ، فالذي عبر المؤمن ، والذي غرق المنافق:( مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ) والذي مكث الكافر وقال ابن جرير:حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا شعبة عن قتادة:( مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ) يقول:ليسوا بمؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرحين بالشرك . قال:وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يضرب مثلا للمؤمن وللمنافق وللكافر ، كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر ، فوقع المؤمن فقطع ، ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ناداه الكافر:أن هلم إلي ، فإني أخشى عليك . وناداه المؤمن:أن هلم إلي ، فإني عندي وعندي ; يحصى له ما عنده . فما زال المنافق يتردد بينهما حتى أتى أذى فغرقه . وإن المنافق لم يزل في شك وشبهة ، حتى أتى عليه الموت وهو كذلك . قال:وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:"مثل المنافق كمثل ثاغية بين غنمين ، رأت غنما على نشز فأتتها وشامتها فلم تعرف ، ثم رأت غنما على نشز فأتتها وشامتها فلم تعرف ".
ولهذا قال تعالى:( ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ) أي:ومن صرفه عن طريق الهدى ( فلن تجد له وليا مرشدا ) فإنه:( من يضلل الله فلا هادي له ) والمنافقون الذين أضلهم عن سبيل النجاة فلا هادي لهم ، ولا منقذ لهم مما هم فيه ، فإنه تعالى لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون .