وقوله:( فكان قاب قوسين أو أدنى ) أي:فاقترب جبريل إلى محمد لما هبط عليه إلى الأرض حتى كان بينه وبين محمد - صلى الله عليه وسلم - قاب قوسين أي:بقدرهما إذا مدا . قاله مجاهد ، وقتادة .
وقد قيل:إن المراد بذلك بعد ما بين وتر القوس إلى كبدها .
وقوله:( أو أدنى ) قد تقدم أن هذه الصيغة تستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه ونفي ما زاد عليه ، كقوله:( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) [ البقرة:74] ، أي:ما هي بألين من الحجارة ، بل هي مثلها أو تزيد عليها في الشدة والقسوة . وكذا قوله:( يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ) [ النساء:77] ، وقوله:( وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ) [ الصافات:147] ، أي:ليسوا أقل منها بل هم مائة ألف حقيقة ، أو يزيدون عليها . فهذا تحقيق للمخبر به لا شك ولا تردد ، فإن هذا ممتنع هاهنا ، وهكذا هذه الآية:( فكان قاب قوسين أو أدنى ) .
وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني الذي صار بينه وبين محمد - صلى الله عليه وسلم - إنما هو جبريل عليه السلام ، هو قول أم المؤمنين عائشة ، وابن مسعود ، وأبي ذر ، وأبي هريرة ، كما سنورد أحاديثهم قريبا إن شاء الله . وروى مسلم في صحيحه ، عن ابن عباس أنه قال:"رأى محمد ربه بفؤاده مرتين ". فجعل هذه إحداهما . وجاء في حديث شريك بن أبي نمر ، عن أنس في حديث الإسراء:"ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى "ولهذا تكلم كثير من الناس في متن هذه الرواية ، وذكروا أشياء فيها من الغرابة ، فإن صح فهو محمول على وقت آخر وقصة أخرى ، لا أنها تفسير لهذه الآية ; فإن هذه كانت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأرض لا ليلة الإسراء ; ولهذا قال بعده:( ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ) ، فهذه هي ليلة الإسراء والأولى كانت في الأرض .
وقد قال ابن جرير:حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا سليمان الشيباني ، حدثنا زر بن حبيش قال:قال عبد الله بن مسعود في هذه الآية:( فكان قاب قوسين أو أدنى ) ، قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"رأيت جبريل له ستمائة جناح ".
وقال ابن وهب:حدثنا ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة ، عن عائشة قالت:كان أول شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى في منامه جبريل بأجياد ، ثم إنه خرج ليقضي حاجته فصرخ به جبريل:يا محمد يا محمد . فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمينا وشمالا فلم ير شيئا - ثلاثا - ثم رفع بصره فإذا هو ثان إحدى رجليه مع الأخرى على أفق السماء فقال:يا محمد ، جبريل ، جبريل - يسكنه - فهرب النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى دخل في الناس ، فنظر فلم ير شيئا ، ثم خرج من الناس ، ثم نظر فرآه ، فدخل في الناس فلم ير شيئا ، ثم خرج فنظر فرآه ، فذلك قول الله عز وجل:( والنجم إذا هوى [ ما ضل صاحبكم وما غوى] ) إلى قوله:( ثم دنا فتدلى ) يعني جبريل إلى محمد ، ( فكان قاب قوسين أو أدنى ):ويقولون:القاب نصف الأصبع . وقال بعضهم:ذراعين كان بينهما .
رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، من حديث ابن وهب . وفي حديث الزهري عن أبي سلمة ، عن جابر شاهد لهذا .
وروى البخاري عن طلق بن غنام ، عن زائدة ، عن الشيباني قال:سألت زرا عن قوله:( فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ) قال:حدثنا عبد الله أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل له ستمائة جناح .
وقال ابن جرير:حدثني ابن بزيع البغدادي ، حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله:( ما كذب الفؤاد ما رأى ) قال:رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه حلتا رفرف ، قد ملأ ما بين السماء والأرض .