ولهذا قال:( إن لك في النهار سبحا طويلا ) قال ابن عباس وعكرمة وعطاء بن أبي مسلم:الفراغ والنوم .
وقال أبو العالية ومجاهد وابن مالك والضحاك والحسن وقتادة والربيع بن أنس وسفيان الثوري:فراغا طويلا .
وقال قتادة:فراغا وبغية ومنقلبا .
وقال السدي:( سبحا طويلا ) تطوعا كثيرا .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله:( [ إن لك في النهار] سبحا طويلا ) قال:لحوائجك ، فأفرغ لدينك الليل . قال:وهذا حين كانت صلاة الليل فريضة ، ثم إن الله من على العباد فخففها ووضعها ، وقرأ:( قم الليل إلا قليلا ) إلى آخر الآية ، ثم قال:( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ) حتى بلغ:( فاقرءوا ما تيسر منه ) [ الليل نصفه أو ثلثه . ثم جاء أمر أوسع وأفسح وضع الفريضة عنه وعن أمته] فقال:قال:( ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) [ الإسراء:49] وهذا الذي قاله كما قاله .
والدليل عليه ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال:حدثنا يحيى ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن زرارة بن أوفى عن سعيد بن هشام:أنه طلق امرأته ثم ارتحل إلى المدينة ليبيع عقارا له بها ويجعله في الكراع والسلاح ، ثم يجاهد الروم حتى يموت ، فلقي رهطا من قومه فحدثوه أن رهطا من قومه ستة أرادوا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"أليس لكم في أسوة ؟ "فنهاهم عن ذلك ، فأشهدهم على رجعتها ، ثم رجع إلينا فأخبرنا أنه أتى ابن عباس فسأله عن الوتر ، فقال:ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال:نعم . قال:ائت عائشة فاسألها ثم ارجع إلي فأخبرني بردها عليك . قال:فأتيت على حكيم بن أفلح فاستلحقته إليها ، فقال:ما أنا بقاربها ; إني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئا ، فأبت فيهما إلا مضيا ، فأقسمت عليه ، فجاء معي ، فدخلنا عليها فقالت:حكيم ؟ وعرفته ، قال:نعم . قالت:من هذا معك ؟ قال:سعيد بن هشام . قالت:من هشام ؟ قال:ابن عامر . قال:فترحمت عليه وقالت:نعم المرء كان عامر . قلت:يا أم المؤمنين ، أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت:ألست تقرأ القرآن ؟ قلت:بلى . قالت:فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن ، فهممت أن أقوم ، ثم بدا لي قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت:يا أم المؤمنين ، أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت:ألست تقرأ هذه السورة:( يا أيها المزمل ) ؟ قلت:بلى . قالت:فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم ، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرا ، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة ، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فريضة ، فهممت أن أقوم ، ثم بدا لي وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت:يا أم المؤمنين ، أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت:كنا نعد له سواكه وطهوره ، فيبعثه الله لما شاء أن يبعثه من الليل ، فيتسوك ثم يتوضأ ثم يصلي ثماني ركعات لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة ، فيجلس ويذكر ربه تعالى ويدعو [ ويستغفر ثم ينهض وما يسلم . ثم يصلي التاسعة فيقعد فيحمد ربه ويذكره ويدعو] ثم يسلم تسليما يسمعنا ، ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم ، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني ، فلما أسن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه اللحم ، أوتر بسبع ، ثم صلى ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم ، فتلك تسع يا بني . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها ، وكان إذا شغله عن قيام الليل نوم أو وجع أو مرض ، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة ، ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة ، ولا قام ليلة حتى أصبح ، ولا صام شهرا كاملا غير رمضان .
فأتيت ابن عباس فحدثته بحديثها ، فقال:صدقت ، أما لو كنت أدخل عليها لأتيتها حتى تشافهني مشافهة .
هكذا رواه الإمام أحمد بتمامه . وقد أخرجه مسلم في صحيحه ، من حديث قتادة بنحوه .
طريق أخرى عن عائشة في هذا المعنى:قال ابن جرير:حدثنا ابن وكيع ، حدثنا زيد بن الحباب - وحدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران قالا جميعا ، واللفظ لابن وكيع:عن موسى بن عبيدة ، حدثني محمد بن طحلاء ، عن أبي سلمة ، عن عائشة قالت:كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيرا يصلي عليه من الليل ، فتسامع الناس به فاجتمعوا ، فخرج كالمغضب - وكان بهم رحيما ، فخشي أن يكتب عليهم قيام الليل - فقال:"أيها الناس ، اكلفوا من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل ، وخير الأعمال ما ديم عليه ". ونزل القرآن:( يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ) حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق ، فمكثوا بذلك ثمانية أشهر ، فرأى الله ما يبتغون من رضوانه ، فرحمهم فردهم إلى الفريضة ، وترك قيام الليل .
ورواه ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف . والحديث في الصحيح بدون زيادة نزول هذه السورة ، وهذا السياق قد يوهم أن نزول هذه السورة بالمدينة ، وليس كذلك ، وإنما هي مكية . وقوله في هذا السياق:إن بين نزول أولها وآخرها ثمانية أشهر - غريب ; فقد تقدم في رواية أحمد أنه كان بينهما سنة .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، عن مسعر ، عن سماك الحنفي ، سمعت ابن عباس يقول:أول ما نزل:أول المزمل ، كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان ، وكان بين أولها وآخرها قريب من سنة .
وهكذا رواه ابن جرير ، عن أبي كريب ، عن أبي أسامة به .
وقال الثوري ومحمد بن بشر العبدي كلاهما عن مسعر ، عن سماك ، عن ابن عباس:كان بينهما سنة . وروى ابن جرير ، عن أبي كريب ، عن وكيع ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس مثله .
وقال ابن جرير:حدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن قيس بن وهب عن أبي عبد الرحمن قال:لما نزلت:( يا أيها المزمل ) قاموا حولا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم ، حتى نزلت:( فاقرءوا ما تيسر منه ) قال:فاستراح الناس .
وكذا قال الحسن البصري .
وقال ابن أبي حاتم:[ حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي] عن قتادة ، عن زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام قال:فقلت - يعني لعائشة -:أخبرينا عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت:ألست تقرأ:( يا أيها المزمل ) ؟ قلت:بلى . قالت:فإنها كانت قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حتى انتفخت أقدامهم ، وحبس آخرها في السماء ستة عشر شهرا ، ثم نزل .
وقال معمر عن قتادة:( قم الليل إلا قليلا ) قاموا حولا أو حولين ، حتى انتفخت سوقهم وأقدامهم ، فأنزل الله تخفيفها بعد في آخر السورة .
وقال ابن جرير:حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر عن سعيد - هو ابن جبير - قال:لما أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم:( يا أيها المزمل ) قال:مكث النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحال عشر سنين يقوم الليل ، كما أمره ، وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه ، فأنزل الله عليه بعد عشر سنين:( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك ) إلى قوله:( وأقيموا الصلاة ) فخفف الله تعالى عنهم بعد عشر سنين .
ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن عمرو بن رافع ، عن يعقوب القمي به .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله:( يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا [ أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ) فأمر الله نبيه والمؤمنين بقيام الليل إلا قليلا] فشق ذلك على المؤمنين ، ثم خفف الله عنهم ورحمهم ، فأنزل بعد هذا:( علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض ) إلى قوله:( فاقرءوا ما تيسر منه ) فوسع الله - وله الحمد - ولم يضيق .