القول في تأويل قوله تعالى:وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)
قال أبو جعفر:يقول تعالى ذكره:(ولقد جاءت رسلنا) ، من الملائكة وهم فيما ذكر ، كانوا جبريل وملكين آخرين. وقيل:إن الملكين الآخرين كانميكائيل وإسرافيل معه، (إبراهيم) ، يعني:إبراهيم خليل الله، (بالبشرى) ، يعني:بالبشارة. (26)
* * *
واختلفوا في تلك البشارة التي أتوه بها.
فقال بعضهم:هي البشارة بإسحاق.
وقال بعضهم:هي البشارة بهلاك قوم لوط.
* * *
، (قالوا سلاما) ، يقول:فسلموا عليه سلامًا.
* * *
ونصب "سلامًا "بإعمال "قالوا "فيه، كأنه قيل:قالوا قولا وسلَّموا تسليمًا.
* * *
، (قال سلام) ، يقول:قال إبراهيم لهم:سلام،فرفع "سلامٌ"، بمعنى:عليكم السلام ،أو بمعنى:سلام منكم .
* * *
وقد ذكر عن العرب أنها تقول:"سِلْمٌ"بمعنى السلام ، كما قالوا:"حِلٌّ وحلالٌ"، "وحِرْم وحرام ". وذكر الفرَّاء أن بعض العرب أنشده:(27)
مَرَرْنَــا فَقُلْنَـا إِيـهِ سِـلْمٌ فَسَـلَّمَتْ
كَمَـا اكْتَـلَّ بِـالَبْرقِ الغَمَـامُ الَّلـوَائِحُ (28)
بمعنى سلام. وقد روي "كما انكلّ".
* * *
وقد زعم بعضهم أن معناه إذا قرئ كذلك:نحن سِلْمٌ لكم،من "المسالمة "التي هي خلاف المحاربة.
وهذه قراءة عامَّة قراء الكوفيين.
* * *
وقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والبصرة ، ( قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ ) ، على أن الجواب من إبراهيم صلى الله عليه وسلم لهم، بنحو تسليمهم:عليكم السلام.
* * *
والصواب من القول في ذلك عندي:أنهما قراءتان متقاربتا المعنى، لأن "السلم "قد يكون بمعنى "السلام "على ما وصفت، و "السلام "بمعنى "السلم "، لأن التسليم لا يكاد يكون إلا بين أهل السّلم دون الأعداء، فإذا ذكر تسليم من قوم على قوم ، ورَدُّ الآخرين عليهم، دلّ ذلك على مسالمة بعضهم بعضًا. وهما مع ذلك قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما أهل قدوة في القراءة، فبأيَّتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ.
* * *
وقوله:(فما لبث أن جاء بعجل حنيذ) .
* * *
،وأصله "محنوذ "، صرف من "مفعول "إلى "فعيل ".
* * *
وقد اختلف أهل العربية في معناه، فقال بعض أهل البصرة منهم (29) معنى "المحنوذ ":المشويّ، قال:ويقال منه:"حَنَذْتُ فرسي"، بمعنى سخَّنته وعرَّقته. واستشهد لقوله ذلك ببيت الراجز:(30)
*ورَهِبَا مِنْ حَنْذِهِ أَنْ يَهْرَجَا* (31)
* * *
وقال آخر منهم:"حنذ فرسه ":أي أضمره، وقال:قالوا حَنَذه يحنِذُه حَنْذًا:أي:عرَّقه.
* * *
وقال بعض أهل الكوفة:كل ما انشوَى في الأرض ، إذا خَدَدت له فيه ، فدفنته وغممته ، فهو "الحنيذ "و "المحنوذ ". قال:والخيل تُحْنَذ ، إذا القيت عليها الجِلال بعضُها على بعض لتعرق. قال:ويقال:"إذا سَقَيْتَ فَأحْنِذْ"، يعني:أخْفِسْ، يريد:أقلَّ الماء، وأكثر النبيذ.
* * *
وأما [أهل] التأويل، فإنهم قالوا في معناه ما أنا ذاكره، وذلك ما:-
18297- حدثني به المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:(بعجل حنيذ) ، يقول:نضيج
18298- حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(بعجل حنيذ) قال:"بعجل "، (32) حَسِيل البقر،،و "الحنيذ ":المشوي النضيج.
18299- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:(ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى) إلى (بعجل حنيذ) ، (33) قال:نضيج ، سُخِّن ، أنضج بالحجارة.
18300- حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة:(فما لبث أن جاء بعجل حنيذ) ، و "الحنيذ ":النضيج.
18301- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:(بعجل حنيذ) ، قال:نضيج. قال:[وقال الكلبي]:و "الحنيذ ":الذي يُحْنَذُ في الأرض. (34)
18302- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن شمر في قوله:(فجاء بعجل حنيذ) ، قال:"الحنيذ ":الذي يقطر ماء ، وقد شوى،وقال حفص:"الحنيذ ":مثل حِنَاذ الخيل.
18303- حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال:ذبحه ثم شواه في الرَّضْف ، (35) فهو "الحنيذ "حين شواه.
18304- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو يزيد، عن يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية:(فجاء بعجل حنيذ) ، قال:المشويّ الذي يقطر.
18305- حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا هشام قال ، حدثنا يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية، قال:"الحنيذ "الذي يقطر ماؤه وقد شُوِي.
18306- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك:(بعجل حنيذ) ، قال:نضيج.
18307- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:(بعجل حنيذ) ، الذي أنضج بالحجارة.
18308- حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان:(فما لبث أن جاء بعجل حنيذ) ، قال:مشويّ.
18309- حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد، أنه سمع وهب بن منبه يقول:"حينذ "، يعني:شُوِي.
18310- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، "الحِناذ ":الإنضاج. (36)
* * *
قال أبو جعفر:وهذه الأقوال التي ذكرناها عن أهل العربية وأهل التفسير متقارباتُ المعاني بعضها من بعض.
* * *
وموضع "أن "في قوله:(أن جاء بعجل حنيذ) نصبٌ بقوله:(فما لبث أن جاء).
-------------------------
الهوامش:
(26) انظر تفسير "البشرى "فيما سلف من فهارس اللغة ( بشر ) .
(27) لم أعرف قائله . والذي أنشده الفراء في تفسير هذه الآية بيت آخر غير هذا البيت ، شاهدًا على حذف "عليكم "، وهو قوله:
فَقُلْنَـا:السَّـلامُ , فـاتَّقَتْ مِنْ أَمِيرَها
وَمَــا كَـانَ إلاَّ وَمْؤُهـا بـالحواجِبِ
وأما هذا البيت الذي هنا ، فقد ذكره صاحب اللسان في مادة ( كلل ) ، عن ابن الأعرابي ، فلعل الفراء أنشده في مكان آخر .
(28) اللسان ( كلل ) ، يقال:"انكل السحاب عن البرق ، واكتل "، أي:لمع به ، و"اللوائح "التي لاح برقها ، أي لمع وظهر .
(29) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن .
(30) هو العجاج .
(31) ديوانه 9 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1:292 ، واللسان ( حنذ ) ، و ( هرج ) ، من رجزه المشهور ، وهذا البيت من أبيات يصف حمار الوحش وأتنه ، لما جاء الصيف ، وخرج بهن يطلب الماء البعيد فقال:
حَـتَّى إِذَا مَـا الصَّيْـفُ كَـانَ أَمَجَـا
وَفَرَعَــا مِــنْ رَعْـىِ مَـا تَلَزَّجَـا
ورَهِبَــا مِــنْ حَــنْذِهِ أَنْ يَهْرَجَـا
تَذَكَّـــرَا عَيْنًـــا رِوًى وَفَلَجَــا
و"الأمج "شدة الحر والعطش ، يأخذ بالنفس . و"تلزج الكلأ "تتبعه ، و"الحنذ "، شدة الحر وإحراقه . و"هرج البعير "تحير وسدر من شدة الحر .
(32) "الحسيل "( بفتح الحاء وكسر السين ):ولد البقرة .
(33) كان في المطبوعة والمخطوطة هنا "ولما جاءت رسلنا "، وهو سهو من الناسخ ، وحق التلاوة ما أثبت . وكذلك جاء سهوًا منه في نص الآية التي يفسرها أبو جعفر ، وصححتها ، ولم أشر إليه هناك .
(34) الذي بين القوسين ليس في المخطوطة ، وقد تركته على حاله ، وإن كنت أشك فيه ، وأرجح أنه زيادة من ناسخ آخر ، بعد ناسخ مخطوطتنا .
(35) "الرضف "( بفتح فسكون ) الحجارة المحماة على النار . و "شواء مرضوف "، مشوي على الرضفة .
(36) الأثر:18310 - من خبر الطويل ، رواه أبو جعفر في تاريخه 1:127 . وفيه "التحناذ "، وكلاهما مما يزاد على معاجم اللغة .