القول في تأويل قوله تعالى:وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:ولا تنظر إلى ما جعلنا لضرباء هؤلاء المعرضين عن آيات ربهم وأشكالهم، متعة في حياتهم الدنيا، يتمتعون بها، من زهرة عاجل الدنيا ونضرتها( لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) يقول:لنختبرهم فيما متعناهم به من ذلك، ونبتليهم، فإن ذلك فانٍ زائل، وغُرور وخدع تضمحلّ( وَرِزْقُ رَبِّكَ ) الذي وعدك أن يرزقكه في الآخرة حتى ترضى، وهو ثوابه إياه (خَيْرٌ) لك مما متعناهم به من زهرة الحياة الدنيا(وأبْقَى) يقول:وأدوم، لأنه لا انقطاع له ولا نفاد، وذكر أن هذه الآية نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى يهوديّ يستسلف منه طعاما، فأبى أن يسلفه إلا برهن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال:ثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي رافع، قال:أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهودي يستسلفه، فأبى أن يعطيه إلا برهن، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنـزل الله ( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ).
حدثنا القاسم، قال:ثنا الحسين، قال:ثنا محمد بن كثير، عن عبد الله بن واقد، عن يعقوب بن يزيد، عن أبي رافع، قال:نـزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف:فأرسلني إلى يهودي بالمدينة يستسلفه، فأتيته، فقال:لا أسلفه إلا برهن، فأخبرته بذلك، فقال:إنِّي لأمِينٌ فِي أهْلِ السَّماءِ وفي أهْلِ الأرْضِ، فاحْمِلْ دِرْعِي إليه، فنـزلتوَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَوقوله (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) إلى قولهوَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىويعني بقوله:( أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ) رجالا منهم &; 18-404 &; أشكالا وبزهرة الحياة الدنيا:زينة الحياة الدنيا.
كما حدثنا بشر، قال:ثنا يزيد، قال:ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ):أي زينة الحياة الدنيا، ونصب زهرة الحياة الدنيا على الخروج من الهاء التي في قوله به من ( مَتَّعْنَا بِهِ ) ، كما يقال:مررت به الشريف الكريم، فنصب الشريف الكريم على فعل مررت، وكذلك قوله ( إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) تنصب على الفعل بمعنى:متعناهم به زهرة في الحياة الدنيا وزينة لهم فيها، وذكر الفراء أن بعض بني فقعس أنشده:
أبَعْـد الَّـذِي بالسَّـفْح سَـفْحِ كُـوَاكِب
رَهِينَــةَ رَمْسٍ مِـنْ تُـرَابٍ وَجَـنْدَلِ (4)
فنصب رهينة على الفعل من قوله:"أبعد الذي بالسفح "، وهذا لا شك أنه أضعف في العمل نصبا من قوله ( مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ) لأن العامل في الاسم وهو رهينة، حرف خافض لا ناصب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال:ثنا يزيد، قال:ثنا سعيد، عن قَتادة، قوله:( لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) قال:لنبتليهم فيه ( وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) مما متَّعنا به هؤلاء من هذه الدنيا.
---------------
الهوامش:
(4) البيت من شواهد الفراء عن بعض بني فقعس ، كما قال المؤلف. وكواكب بضم الكاف:جبل بعينه ، ورهينة الرمس الذي نزل واستقر به لا يبرحه . والرمس:القبر . أو التراب والصخور يوارى بها الميت في لحده . والجندل:الصخر والشاهد في البيت:نصب رهينة على الخروج كما قال المؤلف ، كما نصبت "زهرة الحياة الدنيا ". قال صاحب تاج العروس:والخروج عن أئمة النحو:هو النصب على المفعولية ، وهو عبارة البصريين ، لأنهم يقولون في المفعول:هو منصوب على الخروج:أي خروجه عن طرفي الإسناد وعمدته ، وهو كقولهم له ( فضلة ) . أه . أراد المؤلف أن رهينة منصوب على البدل من محل المجرور ( بالسفح ) ، لأنه محله النصب على المفعولية . وقد تبين أبو البقاء العكبري في "إعراب القرآن "وجوه نصب "زهرة الحياة "قال ( 2:68 ) في نصبه أوجه:( أحدها ):أن يكون منصوبا بفعل محذوف ، دل عليه "متعنا "أي جعلنا لهم زهرة الحياة الدنيا . و ( الثاني ):أن يكون بدلا من موضع ( به ) . و ( الثالث ):أن يكون بدلا من أزواج . والتقدير:ذوي زهرة ؛ فحذف المضاف . ويجوز أن يكون جعل الأزواج زهرة على المبالغة . ولا يجوز على أن يكون صفة ، لأنه معرفة ، وأزواجا:نكرة . و ( الرابع ):أن يكون على الذم ، أي أذم أو أعنى . و ( الخامس ):أن يكون بدلا من ( ما ) . اختاره بعضهم . وقال آخرون:لا يجوز ؛ لأن قوله تعالى:( لنفتنهم ) من صلة "متعنا "، فيلزم منه الفصل بين الصلة والموصول بالأجنبي . و ( السادس ):أن يكون حالا من الهاء ، أو من ( ما ) ، وحذف التنوين لالتقاء الساكنين ، وجر الحياة على البدل . وممن اختاره مكي ( لعله أبو الحرم مكي بن ريان الماكسيني الضرير ) ، وفيه نظر . و ( السابع ):أنه تمييز لما ، أو للهاء في ( به ) ، حكي عن الفراء ، وهو غلط ، لأنه معرفة . أه .