وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله:( ثُمَّ خَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عَظْما ) وعصبا، فكسوناه لحما. وقوله:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) يقول:ثم أنشأنا هذا الإنسان خلقا آخر. وهذه الهاء التي في:( أَنْشَأْنَاهُ ) عائدة على الإنسان في قوله:وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَقد يجوز أن تكون من ذكر العظم والنطفة والمضغة، جعل ذلك كله كالشيء الواحد. فقيل:ثم أنشأنا ذلك خلقا آخر.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) فقال بعضهم:إنشاؤه إياه خلقا آخر:نفخه الروح فيه؛ فيصير حينئذ إنسانا، وكان قبل ذلك صورة.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال:ثنا هشيم، قال:أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس في قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) قال:نفخ فيه الروح .
حدثنا ابن بشار، قال:ثنا عبد الرحمن، قال:ثنا هشيم عن الحجاج بن أرطأة، عن عطاء، عن ابن عباس، بمثله.
حدثنا القاسم، قال:ثنا الحسين، قال:ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال:قال ابن عباس:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) قال:الروح.
حدثنا ابن بشار، قال:ثنا عبد الرحمن، قال:ثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن عكرمة، في قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) قال:نفخ فيه الروح .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا ثنا عبد الرحمن، قال:ثنا سلمة، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) قال:نفخ فيه الروح.
قال:ثنا عبد الرحمن، قال:ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، بمثله.
حدثنا القاسم، قال:ثنا الحسين، قال:ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) قال:نفخ فيه الروح، فهو الخلق الآخر الذي ذكر.
حُدثت عن الحسين، قال:سمعت أبا معاذ يقول:أخبرنا عبيد، قال:سمعت الضحاك يقول، في قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا ) يعني الروح تنفخ فيه بعد الخلق.
حدثني يونس، قال:أخبرنا ابن وهب، قال:قال ابن زيد، في قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ &; 19-18 &; خَلْقًا آخَرَ ) قال:الروح الذي جعله فيه. وقال آخرون:إنشاؤه خلقا آخر، تصريفه إياه في الأحوال بعد الولادة في الطفولة والكهولة، والاغتذاء، ونبات الشعر والسنّ، ونحو ذلك من أحوال الأحياء في الدنيا.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال:ثنا أبي، قال:ثني عمي، قال:ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) يقول:خرج من بطن أمه بعد ما خلق، فكان من بدء خلقه الآخر أن استهل، ثم كان من خلقه أن دُلّ على ثدي أمه، ثم كان من خلقه أن علم كيف يبسط رجليه إلى أن قعد، إلى أن حبا، إلى أن قام على رجليه، إلى أن مشى، إلى أن فطم، فعلم كيف يشرب ويأكل من الطعام، إلى أن بلغ الحلم، إلى أن بلغ أن يتقلب في البلاد.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال:ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) قال:يقول بعضهم:هو نبات الشعر، وبعضهم يقول:هو نفخ الروح.
حدثنا الحسن، قال:أخبرنا عبد الرزاق، قال:أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.
حُدثت عن الحسين، قال:سمعت أبا معاذ يقول:أخبرنا عبيد، قال:سمعت الضحاك:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) قال:يقال الخلق الآخر بعد خروجه من بطن أمه بسنه وشعره.
وقال آخرون:بل عنى بإنشائه خلقا آخر:سوَّى شبابه.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال:ثنا أبو عاصم، قال:ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال:ثنا الحسن، قال:ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) قال:حين استوى شبابه.
حدثنا القاسم، قال:ثنا الحسين، قال:ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال:قال مجاهد:حين استوى به الشباب.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال:عنى بذلك نفخ الروح فيه، وذلك أنه بنفخ الروح فيه يتحول خلقا آخر إنسانا، وكان قبل ذلك بالأحوال التي وصفه الله أنه كان بها، من نطفة وعلقة ومضغة وعظم وبنفخ الروح فيه، يتحوّل عن تلك المعاني كلها إلى معنى الإنسانية، كما تحوّل أبوه آدم بنفخ الروح في الطينة التي خلق منها إنسانا، وخلقا آخر غير الطين الذي خلق منه.
وقوله:( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال &; 19-19 &; بعضهم:معناه فتبارك الله أحسن الصانعين.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال:ثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد:( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) قال:يصنعون ويصنع الله، والله خير الصانعين.
وقال آخرون:إنما قيل:( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) لأن عيسى ابن مريم كان يخلق، فأخبر جل ثناؤه عن نفسه أنه يخلق أحسن مما كان يخلق.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال:ثنا الحسين، قال:ثني حجاج، قال:قال ابن جُرَيج، في قوله:( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) قال:عيسى ابن مريم يخلق.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول مجاهد؛ لأن العرب تسمي كل صانع خالقا، ومنه قول زهير:
وَلأنْــتَ تَفْـرِي مـا خَـلَقْتَ وَبَـعْ
ضُ القَــوْمِ يخْــلُقُ ثـمَّ لا يَفْـرِي (5)
ويروى:
ولأنْــت تخْــلُقُ مـا فَـريت وَبَـعْ
ضُ القَــوْمِ يخْــلُقُ ثُـمَّ لا يَفْـرِي
-----------------------------
الهوامش:
(5) البيت لزهير بن أبي سلمى يمدح رجلا (اللسان:خلق) يقول:أنت إذا قدرت أمرا قطعته وأمضيته، وغيرك يقدر ما لا يقطعه، لأنه ليس بماض العزم وأنت مضاء على ما عزمت عليه. والخلق:التقدير، يقال:خلق الأديم يخلقه خلقًا:قدره لما يريد قبل القطع، وقاسه ليقطع منه مزادة أو قربة أو خفا. ولذلك سمت العرب كل صانع كالنجار والخياط ونحوهما خالقًا، لأنه يقيس الخشب ويقدره على ما يريده له. والفري:القطع بعد التقدير، وقد يكون قبله، بأن يقطع قطعة من جلد أو ثوب قطعًا مقاربًا، ثم يصلحها ويسويها بالحساب والتقدير، على ما يريده ولذلك جاءت رواية أخرى في البيت:ولأنت تخلق ما فريت... إلخ.