ولهذا قال هاهنا:( ثم خلقنا النطفة علقة ) أي:ثم صيرنا النطفة ، وهي الماء الدافق الذي يخرج من صلب الرجل وهو ظهره وترائب المرأة وهي عظام صدرها ما بين الترقوة إلى الثندوة فصارت علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة . قال عكرمة:وهي دم .
( فخلقنا العلقة مضغة ):وهي قطعة كالبضعة من اللحم ، لا شكل فيها ولا تخطيط ، ( فخلقنا المضغة عظاما ) يعني:شكلناها ذات رأس ويدين ورجلين بعظامها وعصبها وعروقها .
وقرأ آخرون:( فخلقنا المضغة عظاما ) .
قال ابن عباس:وهو عظم الصلب .
وفي الصحيح ، من حديث أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كل جسد ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب ، منه خلق ومنه يركب ".
( فكسونا العظام لحما ) أي:وجعلنا على ذلك ما يستره ويشده ويقويه ، ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) أي:ثم نفخنا فيه الروح ، فتحرك وصار ) خلقا آخر ) ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب ( فتبارك الله أحسن الخالقين )
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا جعفر بن مسافر ، حدثنا يحيى بن حسان ، حدثنا النضر يعني:ابن كثير ، مولى بني هاشم حدثنا زيد بن علي ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال:إذا أتمت النطفة أربعة أشهر ، بعث إليها ملك فنفخ فيها الروح في الظلمات الثلاث ، فذلك قوله:( ثم أنشأناه خلقا آخر ) يعني:نفخنا فيه الروح .
وروي عن أبي سعيد الخدري أنه نفخ الروح .
قال ابن عباس:( ثم أنشأناه خلقا آخر ) يعني به:الروح . وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، والشعبي ، والحسن ، وأبو العالية ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، والسدي ، وابن زيد ، واختاره ابن جرير .
وقال العوفي ، عن ابن عباس:( ثم أنشأناه خلقا آخر ) يعني:ننقله من حال إلى حال ، إلى أن خرج طفلا ثم نشأ صغيرا ، ثم احتلم ، ثم صار شابا ، ثم كهلا ثم شيخا ، ثم هرما .
وعن قتادة ، والضحاك نحو ذلك . ولا منافاة ، فإنه من ابتداء نفخ الروح [ فيه] شرع في هذه التنقلات والأحوال . والله أعلم .
قال الإمام أحمد في مسنده:حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن عبد الله هو ابن مسعود قال:حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الصادق المصدوق:"إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات:رزقه ، وأجله ، وعمله ، وهل هو شقي أو سعيد ، فوالذي لا إله غيره ، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخلها ".
أخرجاه من حديث سليمان بن مهران الأعمش .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن خيثمة قال:قال عبد الله يعني:ابن مسعود إن النطفة إذا وقعت في الرحم ، طارت في كل شعر وظفر ، فتمكث أربعين يوما ، ثم تتحدر في الرحم فتكون علقة .
وقال الإمام أحمد أيضا:حدثنا حسين بن الحسن ، حدثنا أبو كدينة ، عن عطاء بن السائب ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن عبد الله قال:مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث أصحابه ، فقالت قريش:يا يهودي ، إن هذا يزعم أنه نبي . فقال:لأسألنه عن شيء لا يعلمه إلا نبي . قال:فجاءه حتى جلس ، فقال:يا محمد مم يخلق الإنسان؟ فقال:"يا يهودي ، من كل يخلق ، من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة ، فأما نطفة الرجل فنطفة غليظة منها العظم والعصب ، وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم والدم "فقام اليهودي فقال:هكذا كان يقول من قبلك .
وقال الإمام أحمد:حدثنا سفيان عن عمرو ، عن أبي الطفيل ، حذيفة بن أسيد الغفاري قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين ليلة ، فيقول:يا رب ، ماذا؟ أشقي أم سعيد؟ أذكر أم أنثى؟ فيقول الله ، فيكتبان . فيقولان:ماذا؟ أذكر أم أنثى؟ فيقول الله عز وجل ، فيكتبان ويكتب عمله ، وأثره ، ومصيبته ، ورزقه ، ثم تطوى الصحيفة ، فلا يزاد على ما فيها ولا ينقص ".
وقد رواه مسلم في صحيحه ، من حديث سفيان بن عيينة ، عن عمرو وهو ابن دينار به نحوه . ومن طرق أخرى ، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة ، عن حذيفة بن أسيد أبي سريحة الغفاري بنحوه ، والله أعلم .
وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا أحمد بن عبدة ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا عبيد الله بن أبي بكر ، عن أنس; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله وكل بالرحم ملكا فيقول:أي رب ، نطفة . أي رب ، علقة أي رب ، مضغة . فإذا أراد الله خلقها قال:يا رب ، ذكر أو أنثى؟ شقي أو سعيد؟ فما الرزق والأجل؟ "قال:"فذلك يكتب في بطن أمه ".
أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد به .
وقوله:( فتبارك الله أحسن الخالقين ) يعني:حين ذكر قدرته ولطفه في خلق هذه النطفة من حال إلى حال ، وشكل إلى شكل ، حتى تصورت إلى ما صارت إليه من الإنسان السوي الكامل الخلق ، قال:( فتبارك الله أحسن الخالقين )
قال ابن أبي حاتم:حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا علي بن زيد ، عن أنس ، قال:قال عمر يعني:ابن الخطاب رضي الله عنه:وافقت ربي ووافقني في أربع:نزلت هذه الآية:( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) الآية ، قلت أنا:فتبارك الله أحسن الخالقين . فنزلت:( فتبارك الله أحسن الخالقين )
وقال أيضا:حدثنا أبي ، حدثنا آدم بن أبي إياس ، حدثنا شيبان ، عن جابر الجعفي ، عن عامر الشعبي ، عن زيد بن ثابت الأنصاري قال:أملى علي رسول الله هذه الآية:( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) إلى قوله:( خلقا آخر ) ، فقال معاذ:( فتبارك الله أحسن الخالقين ) ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال له معاذ:مم ضحكت يا رسول الله؟ قال:"بها ختمت ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) .
جابر بن يزيد الجعفي ضعيف جدا ، وفي خبره هذا نكارة شديدة ، وذلك أن هذه السورة مكية ، وزيد بن ثابت إنما كتب الوحي بالمدينة ، وكذلك إسلام معاذ بن جبل إنما كان بالمدينة أيضا ، فالله أعلم .