القول في تأويل قوله عز ذكره:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا
قال أبو جعفر:يعني بذلك جل ثناؤه:يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد، ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيامُ لله شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم، (192) ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعدواتهم لكم، ولا تقصِّروا فيما حددت لكم من أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم لكم، (193) ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدِّي، واعملوا فيه بأمري.
* * *
وأما قوله:"ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا "فإنه يقول:ولا يحملنكم عداوةُ قوم على ألا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة.
* * *
وقد ذَكرنا الرواية عن أهل التأويل في معنى قوله:كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ[سورة النساء:135] وفي قوله:وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ[سورة المائدة:2] واختلاف المختلفين في قراءة ذلك، والذي هو أولى بالصواب من القول فيه والقراءة= بالأدلة الدالة على صحته، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (194)
* * *
وقد قيل:إن هذه الآية نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين همت اليهود بقتله.
ذكر من قال ذلك:
11556 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير:"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى "، نـزلت في يهود خيبر، أرادوا قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم= وقال ابن جريج، قال عبد الله بن كثير:ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود يستعينهم في دية، فهمُّوا أن يقتلوه، فذلك قوله:"ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا "... الآية.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره:اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
قال أبو جعفر:يعني بقوله جل ثناؤه:"اعدلوا "أيها المؤمنون، على كل أحد من الناس وليًّا لكم كان أو عدوًّا، فاحملوهم على ما أمرتكم أن تحملوهم عليه من أحكامي، ولا تجوروا بأحد منهم عنه.
* * *
وأما قوله:"هو أقرب للتقوى "فإنه يعني بقوله:"هو "العدلُ عليهم أقرب لكم أيها المؤمنون إلى التقوى، يعني:إلى أن تكونوا عند الله باستعمالكم إياه من أهل التقوى، وهم أهل الخوف والحذر من الله أن يخالفوه في شيء من أمره، أو يأتوا شيئا من معاصيه. (195)
* * *
وإنما وصف جل ثناؤه "العَدْل "بما وصفه به من أنه "أقرب للتقوى "من الجور، لأن من كان عادلا كان لله بعدله مطيعًا، ومن كان لله مطيعا، كان لا شك من أهل التقوى، ومن كان جائرا كان لله عاصيا، ومن كان لله عاصيا، كان بعيدًا من تقواه.
* * *
وإنما كنى بقوله:"هو أقرب "عن الفعل (196) والعرب تكني عن الأفعال إذا كَنَتْ عنها بـ "هو "وبـ "ذلك "، كما قال جل ثناؤه:فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ(197) [سورة البقرة:271] وذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ[سورة البقرة:232]. (198) ولو لم يكن في الكلام "هو "لكان "أقرب "نصبا، ولقيل:"اعدلوا أقربَ للتقوى "، كما قيل:انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ[سورة النساء:171]. (199)
* * *
وأما قوله:"واتقوا الله إنّ الله خبير بما تعملون "، فإنه يعني:واحذروا أيها المؤمنون، أن تجوروا في عباده فتجاوزوا فيهم حكمه وقضاءَه الذين بيّن لكم، فيحلّ بكم عقوبته، وتستوجبوا منه أليم نكاله="إن الله خبير بما تعملون "، يقول:إن الله ذو خبرة وعلم بما تعملون أيها المؤمنون فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، من عمل به أو خلافٍ له، مُحْصٍ ذلكم عليكم كلّه، حتى يجازيكم به جزاءَكم، المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيءَ بإساءته، فاتقوا أن تسيئوا. (200)
-------------------------
الهوامش:
(192) في المطبوعة:"لولايتهم"، وأسقط"لكم"، وأثبتها من المخطوطة.
(193) انظر تفسير"القسط"فيما سلف 9:301 ، تعليق:5 ، والمراجع هناك.
(194) انظر ما سلف 9:301 ، الآية الأولى = ثم الثانية 9:483- 487.
(195) انظر تفسير"العدل"، و"التقوى"، فيما سلف من فهارس اللغة.
(196) "الفعل"، يعني مصدر الفعل ، كما سلف قريبا ص:82 ، تعليق:2 ، وانظر فهرس المصطلحات.
(197) كان في المطبوعة:"هو خير لكم"، وفي المخطوطة بإسقاط"هو"، وهذا الذي أثبته هو نص آية البقرة:271 ، وراجع ذلك في 5:582 مما سلف. وانظر معاني القرآن للفراء 1:303.
(198) في المطبوعة والمخطوطة:"ذلك أذكى"، وأثبت نص آية البقرة. وانظر ما سلف 5:29.
(199) انظر ما سلف 9:413-415.
(200) انظر تفسير"خبير"فيما سلف من فهارس اللغة.