التّفسير
دعوة مؤكّدة إلى العدالة:
إِنّ الآية الأولى من الآيات الثلاث أعلاه تدعو إلى تحقيق العدالة ،وهي شبيهة بتلك الدعوة الواردة في الآية ( 135 ) من سورة النساء ،التي مضى ذكرها مع اختلاف طفيف .
فتخاطب هذه الآية أوّلا المؤمنين قائلة: ( يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط ) .
ثمّ تشير إلى أحد أسباب الانحراف عن العدالة ،وتحذّر المسلمين من هذا الانحراف مؤكّدة أنّ الأحقاد والعداوات القبلية والثارات الشخصية ،يجب أن لا تحول دون تحقيق العدل ،ويجب أن لا تكون سبباً للاعتداء على حقوق الآخرين ،لأنّ العدالة أرفع وأسمى من كل شيء ،فتقول الآية الكريمة: ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ...) وتكرر الآية التأكيد لبيان ما للعدل من أهمية قصوى فتقول ( أعدلوا هو أقرب للتقوى ) .
وبما أنّ العدالة تعتبر أهم أركان التقوى ،تؤكّد الآية مرّة ثالثة قائلة: ( واتقوا الله إِنّ الله خبير بما تعملون ) .
والفرق بين فحوى هذه الآية والآية المشابهة لها الواردة في سورة النساء ،يتحدد من عدّة جهات:
أوّلا: إِنّ الآية الواردة في سورة النساء دعت إلى إِقامة العدل والشهادة لله ،أمّا الآية الأخيرة فقد دعت إلى القيام لله والشهادة بالحق والعدل ،ولعل وجود هذا الفارق لأنّ الآية الواردة في سورة النساء استهدفت بيان ضرورة أن تكون الشهادة لله ،لا لأقارب وذوي الشاهد ،بينما الآية الأخيرة ولكونها تتحدث عن الأعداء أوردت تعابير مثل الشهادة بالعدل والقسط أي تجنب الشهادة بالظلم والجور .
ثانياً: أشارت الآية الواردة في سورة النساء إلى واحد من عوامل الانحراف عن العدالة ،بينما الآية الأخيرة أشارت إلى عامل آخر في نفس المجال ،فهناك ذكرت الآية عامل الحب المفرط الذي لا يستند على تبرير أو دليل ،بينما ذكرت الآية الأخيرة الحقد المفرط الذي لا مبرر له .
ولكن الآيتين كليهما تتلاقيان في عامل إتّباع الأهواء والنزوات التي تتحدث عنها الآية الأولى في جملة: ( فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ...) لأنّ الهوى مصدر كلّ ظلم وجور ينشأ من الاندفاع الأعمى وراء الأهواء والمصالح الشخصية ،لا من دافع الحب أو الكراهية ،وعلى هذا الأساس فإِنّ المصدر الحقيقي للانحراف عن العدل هو نفس إتّباع الهوى ،وقد جاء في كلام النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) والإِمام علي بن أبي طالب( عليه السلام ) قولهما: «أما إتّباع الهوى فيصدّ عن الحق »{[993]} .
العدل ركن إِسلامي مهم:
قلما نجد قضية أعطى الإِسلام لها أهمية قصوى كقضية العدل ،فهي وقضية التوحيد سيان في تشعب جذورهما إلى جميع الأُصول والفروع الإِسلامية ،وبعبارة أُخرى: كما أنّ جميع القضايا العقائدية والعملية والاجتماعية والفردية والأخلاقية والقانونية لا تنفصل مطلقاً عن حقيقة التوحيد ،فكذلك لا تنفصل كل هذه القضايا ولا تخلو أبداً من روح العدل .
وليس من العجيب والحالة هذه أن يكون العدل واحداً من أُصول العقيدة والدين ،وأساساً من أُسس الفكر الإِسلامي ،وهو مع كونه صفة من صفات الله سبحانه ويدخل ضمن مبادئ المعرفة الإِلهية ،إِلاّ أنّه يشتمل على معان واسعة في خصائصه ومزاياه ،ولذلك كان ما أولته البحوث الاجتماعية في الإِسلام من الاهتمام بالعدل والاعتماد عليه يفوق ما حظيت به المبادئ الإِسلامية الأُخرى من ذلك .
ويكفي إِيراد عدد من الأحاديث والرّوايات نماذج لدرك أهمية هذه الحقيقة:
1روي عن رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال: «إِيّاكم والظلم فإِنّ الظلم عند الله هو الظلمات يوم القيامة »{[994]} .
وبديهي أن كل ما هو موجود من خير وبركة ونعم هو من النور وفي النور ،وإِنّ الظلام هو مصدر كل عدم وفاقة .
2وقال النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) أيضاً: «بالعدل قامت السموات والأرض »{[995]} .
ويعتبر هذا القول من أوضح التعابير التي قيلت في شأن العدل ،ومعناه أنّ حياة البشر المحدودة في الكرة الأرضية ليست وحدها التي يكون قوامها العدل ،بل إنّ حياة ووجود الكون بأكمله ،والسماوات والأرضين كلها قائمة بالعدل ،وفي ظل حالة من توازن القوى الفاعلة فيها ،ووجود واستقرار كل شيء في محله منها ،بحيث لو أنّها انحرفت عن هذا التوازن لحظة واحدة أو بمقدار قيد أنملة لحكمت على نفسها بالفناء والزوال .
ويؤيد هذا القول حديث آخر هو: «الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم » لأنّ للظلم أثراً سريعاً في هذه الحياة الدنيوية ومن نتائجه الحروب والاضطرابات والقلاقل والفوضى السياسية والاجتماعية والأخلاقية والأزمات الاقتصادية التي تعمّ العالم اليوم ،وهذا ما يثبت الحقيقة المذكورة بصورة جيدة .
ويجب الانتباه جيداً إلى أنّ اهتمام الإِسلام لم ينصب في مجرد العدالة ،بل إنّه أولى أهمية أكبر لتحقيق العدالة ،وطبيعي أنّ محض تلاوة هذه الآيات في المجالس أو من على المنابر ،وكتابتها في الكتب ،لا يجدي نفعاً في استعادة العدالة المفقودة ،وعلاج التمييز الطبقي والعنصري ،والفساد الاجتماعي في المجتمع الإِسلامي ،بل إنّ عظمة هذه الآيات والأحكام تتجلّى في يوم تطبق فيه العدالة في صميم حياة المسلمين .