مناسبة النزول
قيل: نزلت هذه الآية في يهود بني النضير حين ائتمروا على الفتك برسول الله( ص ) فأوحى الله إليه بذلك ،ونجا من كيدهم ،فأرسل( ص ) يأمرهم بالرحيل من جوار المدينة ،فامتنعوا وتحصَّنوا بحصونهم ،فخرج( ص ) إليهم بجمعٍ من أصحابه ،وحاصرهم ست ليال ،اشتد الأمر فيها عليهم ،فسألوا النبي( ص ) أن يكتفي منهم بالجلاء ،وأن يكف عن دمائهم ،وأن يكون لهم ما حملت الإبل ،وكان البعض من المؤمنين يرى لو يمثِّل النبي( ص ) بهم ويكثر من الفتك فيهم ،فنزلت الآية لنهيهم عن الإفراط في المعاملة بالتمثيل والتشويه ،فقبل النبي( ص ) من اليهود ما اقترحوه .
وقيل: نزلت في المشركين الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام عام الحُديبيّة ،كأنَّه تعالى أعاد النهي هنا ليخفف من حدة المسلمين ورغبتهم في الفتك بالمشركين بأيّ نوعٍ من أنواع الفتك .
ونلاحظ على هاتين الرِّوايتين أنَّهما لا تنسجمان مع سياق الآية الَّذي يوحي بوجود الضوابط الّتي تحدد لكل فريق حقَّه في العلاقات المرتبطة بالآخر ،فلا بُدَّفي هذه الحالةمن الوقوف عند الحدود الّتي حدّدها الله لهما في المعاملات ،بينما نجد أنَّ الرِّوايتين تتحدثان عن حالة حرب بين المسلمين من جهة واليهود أو المشركين من جهة أخرى خاضعة للمفاوضات الّتي يحدد فيها الفريق المعتدى عليه شروطه على المعتدين ،الأمر الَّذي لا يجعل للمسألة قاعدةً ثابتة تحكم الطرفين ،ليكون التعدي عليه ابتعاداً عن خط العدل ،مع ملاحظةٍ أخرى ،وهي أنَّ المسألة لم تصلفي دائرة التجاذب في المفاوضاتإلى مرحلة الحديث عن التشويه والتمثيل الَّذي لا يُصار إلى الحديث عنهعادةًإلاَّ بعد القتل .والله العالم .
العدل شعار الإسلام
وفي مطلق الأحوال ،يظل العدل شعار الإسلام في الحياة ،وينطلق القرآن ليؤكد عليه في بناء شخصيّة الإنسان المسلم بمختلف الأساليب ،من أجل إلغاء كل النوازع والأفكار والمشاعر المنحرفة من تكوينه الذاتي ،لئلا تحول بينه وبين الانسجام مع حركة الخط المستقيم في الحياة .
وجاءت هذه الآية لتتحدث عن ذلك من بعض جوانبه الحادّة الّتي قد تؤدي بالإنسان إلى الانحراف ،فأطلقت المبدأ الأساس في طبيعة الموقف الَّذي ينبغي للمؤمنين أن يقفوه ،فدعتهم إلى أن يكونوا قوّامين لله ،بحيث تكون حياتهم كلها قياماً له ،وانفتاحاً عليه ،والتزاماً برضاه ،في كل ما يفكرون به ويتطلعون إليه ويقومون به من أعمال ،ويمارسونه من علاقات ،ويهتمون به من قضايا ومواقف ..فليس هناك مكانٌ في شخصيتهم ،في كل ما يختزنونه من دوافع ويعيشونه من مشاعر وأحاسيس ،لغير الله ،وبذلك يصبح الإنسان خاضعاً في موقفه في كل العلاقات الإيجابيّة والسلبيّة لرضى الله ،وفي ضوء ذلك ،أرادت منهم أن يكونوا{شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ}وهو العدللأنَّ ذلك هو مقياس الارتباط بالله والابتعاد عن غيره ،لما يستلزمه الارتباط بالحق من رؤية صافية واضحة لا يحول الضباب بينها وبين واقع الأشياء ،فالمؤمن ينظر بنور الله الَّذي أودعه في قلبه ،ونور الله لا يخطىء ولا ينحرف عن خط الحقيقة .وبذلك تكون الشهادة بالقسط حركة الإيمان الواعي في حياة المؤمن ،وبهذه الروح لا مكان للعداوة والصداقة في هذا المجال ،فليس للمؤمن أن يفكر بهما في ما ينطلقان فيه من مشاعر ،وما يتحركان به من مواقف ،بل كل فكرهعند أيّة قضيةالله والحق ،فهما الهاجس في كل شيء .
ويؤكد الله هذا الجانب من الموقف في قوله تعالى:{وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} أي لا يحملنَّكم .{شَنَآنُ قَوْمٍ} وبغضهم وعداواتهم ،{عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ} فتشهدوا عليهم بغير الحق أو تحكموا عليهم بالباطل ،{اعْدِلُواْ} مع أعدائكم وأصدقائكم{هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} فالعدل يلتقي مع خط التقوى الَّذي يراقب فيه الإنسان ربَّه ولا يراقب غيره مهما كانت صفته في حياته ،{وَاتَّقُواْ اللَّهَ} في الالتزام بهذا الخط في جميع مجالات حياتكم ،فلا تدعوا العلاقات السلبيّة والإيجابيّة تؤثر على طريقتكم في الحكم والشهادة ،ولا تغفلوا عمّا توحيه فكرة الإيمان من الحقيقة الإِلهيّة ،{إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} .
وهذا ما يميز المجتمع المسلم في أفراده ،سواء على مستوى الحكم أو العلاقة والمعاملة ،فالإيمان يمثِّل الضمانة الحقيقية الّتي يقدّمها لكل الَّذين يلتقون معه في العقيدة أو يختلفون معه فيها ،فلا مجالمع الإسلامللظلم حتَّى للأعداء ،لأنَّ قضيّة العداوة تخضع لأوضاع ومواقف معيّنة تفرض نوعاً من السلوك السلبي الَّذي لا يمكن أن يبتعد عن الموازين والقوانين الشرعيّة ،الّتي تعتبر أنَّ للعداوة مساحةً لا يمكن أن يتعداها الإنسان المؤمن ،وهي مساحة الحقوق الّتي اكتسبها هذا العدو أو ذاك ،من خلال المواثيق والمعاهدات ،أو من خلال الأحكام الشرعيّة الّتي أنزلها الله مما يحترم فيه بعض جوانبه الإنسانيّة .وبناءً على ذلك ،يجب على القائمين على شؤون التربية الإسلاميّة التأكيد على هذا الجانب في بناء شخصيّة الإنسان المسلم والابتعاد به عن الانفعالات الحادّة الّتي قد توحي بها العداوة كي لا ينحرف عن الخط المستقيم ،وذلك من أجل بناء مجتمعٍ سليمٍ عادلٍ على أساس تركيز الفرد المسلم العادل ،وتلك مهمةٌ صعبةٌ في واقع المجتمع المنحرف القائم على قواعد الانفعالات الّتي تُثيرها العلاقات السلبية والإيجابيّة ،ولكنَّها الصعوبات الّتي تنتظر الدعاة إلى الله الأدلاّء على سبيله ،ليكونوا في مستوى مسؤوليّة الإيمان والحياة .