الدعوة إلى ذكر ميثاق الله
وهذه دعوةٌ للمؤمنين للانطلاق في إيمانهم بالله من حيث هو نعمةٌّ من خلال ما يوحيه من فكرٍ ويتحرك به من أعمال ،ومن حيث هو ميثاق بين الله وعباده ،لأنَّ الإيمان موقفٌ يلتزم به في مقابل ما يأمله من ربِّه من خلال وعده له بالرضوان والمغفرة والنعيم ..ولكن ماذا عن هذا الميثاق الَّذي واثقهم الله به ،وقالوا سمعنا وأطعنا استجابةً له ؟فقد جاء في مورد الإجابة عن ذلك ،أقوال: أحدها أن معناه ما أخذ عليهم رسول الله( ص ) عند إسلامهم وبيعتهم بأن يطيعوا الله في كلِّ ما يفرضه عليهم مما ساءهم أو سرّهم … وثانيها ما بيّن لهم في حجة الوداع من تحريم المحرمات ،وكيفية الطهارة ،وفرض الولاية ،وغير ذلك…وثالثها أن المراد به متابعتهم للنبي( ص ) يوم بيعة العقبة وبيعة الرضوان… ورابعها أن معناه ما أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم ؟قالوا بلى ..وهذا أضعف الأقوال ،كما يقول صاحب مجمع البيان .
أو ربَّما أريد به العهد المعقود بين الله والإنسان في تكوين فطرته المنفتحة على حقيقة التوحيد ومعنى الرسالة وسرّ العبوديّة ،مما يتوجه إليه الإنسان بفطرته الّتي تختزن العقل والإدراك والإحساس ،وتقوده من خلالها إلى تحريكها من أجل المعرفة في التزاماتها العقليّة ومسؤولياتها العمليّة الّتي تكاد تنطق بلسان القابليّة الإنسانيّة الواعية ،لتعبِّر عن خضوعها للسر الإلهي المودع فيها بما ينسجم مع السمع والطاعة المتمثِّل بقوله:{سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} وهذا أسلوبٌ قرآنيٌّ في استنطاق الواقع الوجودي في إيحاءاته المعبِّرة ،سواء في المخلوقات الحيّة كالإنسان ،أو الجامدة كالسماء والأرض والجبال ونحوها مما تحدث القرآن عنه بأسلوبٍ حواريٍّ بينها وبين الله ،باعتبار الحقيقة الكامنة في وجودها من حيث انفعالها بما أودعه الله فيها من الخصائص .
وقد يكون هذا هو المقصود بالميثاق الإلهي في أصل الخلقة بالمعنى المتمثّل بمنطق الفطرة في لسان الحال وسرّ الخلق ،لا بالطريقة المباشرة في الالتزام الصادر من الإنسان أمام الله كما جاءت به بعض روايات عالم الذر .وربَّما كان المراد به أحد هذه الوجوه ،وذلك انسجاماً مع منطوق الآية الَّذي يوحي بأنَّ هناك ميثاقاً وعهداً من المؤمنين ،ووعداً والتزاماً بالسمع الطاعة ،وربَّما كان هذا الأسلوب القرآني وارداً على طريقة الإيحاء من حيث اقتضاء الالتزام بالإيمان ،فيكون معناه الالتزام بالسمع والطاعة كما لو كانوا قد قالوا ذلك وأعلنوه ،فكأنَّ القرآن يذكّر المؤمنين بذلك لئلاّ يغفلوا عنه وعن نتائجه في ما يواجهونه من مشاغل الحياة ومشاكلها الّتي تبعدهم عن هذه الأجواء ،ليظلوا على وعي بحقيقته ومدلوله في حياتهم الخاصة والعامّة ،وليعرفوابعمق المعرفة الواعيةأنَّ الميثاق الإيماني ليس مجرد التزام بالفكر ،ولكنَّه التزام عملي يتمثَّل بالسمع والطاعة على مستوى الممارسة والحياة .ولذلك عقَّبه الله بالدعوة إلى التقوى الّتي تمثِّل مراقبة الله في الوصول بالميثاق إلى أهدافه العمليّة الممتدة في حياة الإنسان ،في إيحاء ختامي بأنَّ{اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ،ليعيش الإنسان الإحساس الداخلي بأنَّ الله يعلم بكل خفاياه وأسراره ،فيدفعه ذلك إلى الإِخلاص في النيّة والعمل ،لأنَّ الزيف والنفاق قد يخدعان النّاس من حوله ،ولكنَّهما لا يخدعان الله الَّذي يعلم سر الإنسان وعلانيته ،ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء .