التّفسير
العهود الرّبانية:
تناولت الآية السابقة مجموعة من الأحكام الإِسلامية بالإِضافة إلى موضوع إِكمال النعمة الإِلهية على المسلمين ،وجاءت الآية الأخيرة لتكمل السياق الموضوعي لما سبق من آيات ،فاستقطبت انتباه المسلمين إلى أهمية وعظمة النعم الإِلهية التي أعظمها وأهمها نعمة الإِيمان والهداية والإِسلام ،تقول الآية: ( واذكروا نعمة الله عليكم ...) ومع أن كلمة «نعمة » جاءت بصيغة المفرد في هذه الآية ،إلاّ أنّها وردت اسم جنس لتفيد العموم ،حيث عنى بالنعمة جميع النعم ،كما يحتمل أيضاً أن يكون المراد نعمة الإِسلام بصورة خاصّة ،والتي أشارت إِليها الآية السابقة بصورة إِجمالية حيث قالت: ( وليتمّ نعمته عليكم ...)فأي نعمة أعظم من أن ينال الإِنسانفي ظل الإِسلامكل الهبات الإِلهية والمفاخر والإِمكانيات الدنيوية ،بعد أن كان الناس يعانون في الجاهلية من التشتت والجهل والضلال ويسود بينهم قانون الغاب ،وكان الفساد والظلم يعم مجتمعهم آنذاك ،وقد تحولوا بفضل الإِسلام إلى مجتمع يسوده الإِتحاد والتماسك والعلم ،ويرفل بالنعم والإِمكانيات المادية والمعنوية الزّاخرة .
بعد هذا تعيد الآية إلى الأذهان ذلك العهد الذي بين البشر وبين الله ،فتقول ( وميثاقه الذي واثقكم به إِذ قلتم سمعنا وأطعنا ...) .
هناك احتمالان حول المعنى المراد بلفظة «العهد » الواردة في الآية وموضوعه .
الاحتمال الأوّل: أن يكون هو ذلك العهد الذي عقده المسلمون في بداية ظهور الإِسلام في واقعة «الحديبية » أو واقعة «حجة الوداع » أو «العقبة » مع الله ،أو بصورة عامّة هو العقد الذي عقده جميع المسلمين بصورة ضمنية مع الله بمجرّد قبولهم الإِسلام .
والاحتمال الثّاني: هو أن يكون العهد المقصود في الآية الكريمة الأخيرة هو ذلك العهد المعقود بين كل فرد إِنسانيبحكم فطرته وخلقهوبين الله ،والذي يقال عنه بأنّه تم في «عالم الذر »{[991]} .
وبيان ذلك هو أنّ الله حين خلق الإِنسان أودع فيه استعدادات ومواهب كثيرة ،ومنها نعمة العلم التي بها يتتبع أسرار الخليقة ،وتتحقق لديه معرفة الحق ،وكذلك نِعم كالعقل والذكاء والإِدراك ليعرف الإِنسان بها أنبياء الله ويلتزم بأوامرهم ،والله سبحانه حين أودع هذه النعم لدى الإِنسان أخذ منه عهداً بأنّ يستغلها خير استغلال ،وأن لا يهملها أو يسىء استعمالها ،فردّ الإِنسان بلسان الحال والاستعداد «سمعنا وأطعنا » .
ويعتبر هذا العهد أوسع وأحكم وأعم عهد أخذه الله من عباده البشر ،وهذا هو العهد الذي يشير إِليه الإِمام علي بن أبي طالب( عليه السلام ) في خطبته الأولى الواردة في كتاب «نهج البلاغة » بقوله: «ليستأدوهم ميثاق فطرته » أي ليطلب منهم أداء الميثاق الفطري الذي أخذه منهم والوفاء به .
وبديهي أنّ يشمل هذا العهد الواسع جميع المسائل والأحكام الدينية .
ولا مانع مطلقاً من أن تكون في هذه الآية إِشارة إلى جميع العهود والمواثيق التكوينية والتشريعية التي أخذها الله أو النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) من المسلمين بمقتضى فطرتهم في مراحل مختلفة ،وهنا يتوضح لنا الحديث القائل بأنّ المراد من الميثاق هو العهد الذي أخذه النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) من المسلمين في حجّة الوداع بخصوص ولاية علي بن أبي طالب( عليه السلام ){[992]} ويتفق هذا التّفسير مع ما ورد أعلاه .
وقد أكّدنا مراراً أنّ التفاسير التي ترد على الآيات القرآنية ،ما هي إلاّ إِشارة لواحد من المصاديق الجلية المعنية في كل آية ،ولا تعني مطلقاً انحصار المعنى بالتّفسير الوارد .
وتجدر الإِشارةأيضاًإلى أنّ كلمة «ميثاق » مشتقّة من المصدر «وثاقة » أو «وثوق » وتعني الشدّ المحكم بالحبل وأمثاله ،كما يطلق على كل عمل يؤدي إلى راحة البال واطمئنان الخاطر ،حيث أنّ العهد يكون بمثابة عقدة تربط شخصين أو جماعتين أحدهما بالآخر ،ولذلك سمّى «ميثاقاً » .
وفي النهاية تؤكّد الآية على ضرورة التزام التقوى ،محذرة أنّ الله محيط بأسرار البشر ،وعالم بما يختلج في صدورهم ،بقولها: ( واتقوا الله إنّ الله عليم بذات الصدور ) .
وتدل عبارة ( ذات الصدور ) على أنّ الله عالم بأدقّ أسرار البشر المكنونة في أعماق نفوسهم والتي لا يمكن لأيّ مخلوق معرفتها غير صاحب السرّ وخالقه ،أي الله العالم بذات الصدور .
وقد شرحنا في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا سبب نسبة العواطف والمشاعر والنوايا والعزائم إلى القلب أو إلى مكنونات الصدور .