التّفسير
تطهير الجسم والرّوح:
لقد تناولت الآيات السابقة بحوثاً متعددة عن الطيبات الجسمانية والنعم المادية ،أمّا الآية الأخيرة فهي تتحدث عن الطيبات الروحية وما يكون سبباً لطهارة الرّوح و النفس الإِنسانية ،فقد بيّنت هذه الآية أحكاماً مثل الوضوء والغسل والتيمم ،التي تكون سبباً في صفاء وطهارة الروح الإِنسانيةفخاطبت المؤمنين في البداية موضحة أحكام الوضوء بقولها: ( يا أيّها الذين آمنوا إِذا قمتم{[983]} إلى الصّلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأمسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) .
لم توضّح الآية مناطق الوجه التي يجب غسلها في الوضوء ،لكن الروايات التي وردت عن أئمّة أهل البيت( عليهم السلام ) قد بيّنت بصورة مفصلة طريقة الوضوء التي كان النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) يعمل بها .
1إِنّ حدود الوجه طولا من منابت الشعر على الجبهة حتى منتهى الذقن ،وعرضاً ما يقع من الوجه بين الأصبع الوسطى والإِبهاموهذا هو ما يسمّى ويفهم من الوجه عرفاً ،لأنّ الوجه هو ذلك الجزء من الجسم الذي يواجه الإِنسان لدى التلاقي مع نظيره .
2لقد ذكرت الآية حدود ما يجب غسله من اليدين في الوضوء ،فأشارت إلى أنّ الغسل يكون حتى المرفقينوقد جاء التصريح بالمرفقين في الآية لكي لا يتوهم بأنّ الغسل المطلوب هو للرسغين كما هو العادة في غسل الأيدي .
ويتبيّن من هذا التوضيح أنّ كلمة «إلى » الواردة في الآية هي لمجرّد بيان حد الغسل وليست ليبان أسلوبه كما التبس على البعض ،حيث ظنوا أنّ المقصود في الآية هو غسل اليدين ابتداء من أطراف الأصابع حتى المرفقين ( وراج هذا الأُسلوب لدى جماعات من أهل السنة ) .
ولتوضيح هذا الأمر نقول: أنّه حين يطلب إِنسان من صباغ أن يصبغ جدار غرفة من حد أرضيتها لغاية متر واحد ،فالمفهوم من ذلك أنّه لا يطلب أن يبدأ الصباغ عمله من تحت إلى فوق ،بل إنّ ذكر هذه الحدود هو فقط لبيان المساحة المراد صبغها لا أكثر ولا أقل ،وعلى هذا الأساس فإِن الآية أرادت من ذكر حدود اليد بيان المقدار الذي يجب غسله منها لا أُسلوب وكيفية الغسل .
وقد شرحت الروايات الواردة عن أهل البيت( عليهم السلام ) أُسلوب الغسل وفق سنّة النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو غسل اليدين من المرفق حتى أطراف الأصابع .
ويجب الانتباه إلى أنّ المرفقأيضاًيجب غسله أثناء الوضوء ،لأن الغاية في مثل هذه الحالات تدخل ضمن المغيّي ،أي أن الحدّ يدخل في حكم المحدود{[984]} .
3إِنّ حرف ( ب ) الوارد مع عبارة «برؤوسكم » في الآية يعني التبعيض ،كما صرّحت به بعض الروايات وأيده البعض من علماء اللغة ،والمراد بذلك بعض من الرأس ،أي مسح بعض من الرأس حيث أكدت روايات الشيعة أنّ هذا البعض هو ربع الرأس من مقدمته ،فيجب مسح جزء من هذا الربع حتى لو كان قليلا باليد ،بينما الرائج بين البعض من طوائف السنّة في مسح كل الرأس وحتى الأذنين لا يتلاءم مع ما يفهم من هذه الآية الكريمة .
4إِنّ اقتران عبارة «أرجلكم » بعبارة «رؤوسكم » دليل على أنّ الأرجل يجب أن تمسح هيأيضاًلا أن تغسل ،وما فتح اللام في «أرجلكم » إِلاّ لأنّها معطوفة محلا على «رؤوسكم » وليست معطوفة على «وجوهكم »{[985]} .
5تعني كلمة «كعب » في اللغة النتوء الظاهر خلف الرجل ،كما تعنيأيضاًالمفصل الذي يربط مشط الرجل بالساق{[986]} .
بعد ذلك كله بيّنت الآية حكم الغسل عن جنابة حيث قالت: ( وإِن كنتم جنباً فاطهروا ...) والواضح أنّ المراد من جملة «فاطّهروا » هو غسل جميع الجسم ،لأنّه لو كان المراد جزءاً خاصاً منه لأقتضى ذكر ذلك الجزء ،وعلى هذا الأساس فإِنّ العبارة المذكورة تعني جميع الجسموقد جاء حكم مشابه لهذا الحكم في الآية ( 43 ) من سورة النساء حيث تقول: ( حتى تغتسلوا ) .
إِنّ كلمة «جُنباً »وكما أوضحنا سابقاً في الجزء الثّالث من تفسيرنا هذا ،لدى تفسير الآية ( 43 ) من سورة النساءمصدر ،وقد وردت بمعنى اسم الفاعل ،وتعني في الأصل «المتباعد » أو «البعيد » لأنّ الجذر الأصلي هو «جنابة » بمعنى «بُعد » ،وسبب إِطلاق هذا اللفظ على الإِنسان المجنب لأن هذا الإِنسان يجب عليه أن يبتعد عن الصلاة والتوقف في المساجد وأمثالها .
وتطلق هذه الكلمة «جنب » على المفرد والجمع والمذكر والمؤنث ،وإِطلاق «جار الجنب » على البعيد هو لنفس المناسبة .
ويمكن أن يستدل من الآية التي تدعو المجنب إلى الاغتسال قبل الصّلاة على أن غسل الجنابة يجزئ ،وينوب عن الوضوء أيضاً .
ومن ثمّ بادرت الآية إلى بيان حكم التيمم حيث قالت: ( وإِن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً ....) .
وهنا يجب الالتفات إلى أن جملتي ( أو جاء أحد منكم من الغائط ) و( أو لامستم النساء ) هماكما أشرنا سابقاًمعطوفتان على بداية الآية ،أي على جملة: ( إِذ قمتم إلى الصّلاة ) فالآية أشارت في البداية حقيقة إلى قضية النوم ،وتطرقت في آخرها إلى نوعين آخرين من موجبات الوضوء والغسل .
أمّا لو عطفنا الجملتين على جملة ( على سفر ) فسنواجه مشكلتين في هذه الآية وهما أوّلا: إِنّ عودة الإِنسان بعد التخلي لا يمكن أن تكون كحالة المرض أو السّفر فلا تناظر بين تلك وهاتين الحالتين ،لذلك ترانا مضطرين إلى أن نأخذ حرف «أو » الوارد في الآية بمعنى الواو العاطفة ( وأكّد هذا الأمر جمع من المفسّرين ) وهذا خلاف لظاهر الآية .
بالإِضافة إلى ذلك فإِنّ ذكر التغوط بصورة خاصّة من بين كل موجبات الوضوء سيبقى بدون مبرر ،لكننا لو فسّرنا الآية بالصورة التي قلناها سابقاً فلا يبقى بعد ذلك مبرر لهذين الاعتراضين الأخيرين ،( ومع أنّنا اعتبرنا في تفسير الآية ( 43 ) من سورة النساء ) ،وجرياً على ما فعله الكثير من المفسّرين ،اعتبرنا كلمة «أو » بمعنى الواو العاطفة ،إِلاّ أنّ الذي ذكرناه مؤخراًهنايعتبر أقرب إلى القبول من ذلك .
أمّا الموضوع الآخر فهو تكرار موضوع الجنابة مرّتين في هذه الآية ،ويحتمل أن يكون هدف هذا التكرار هو التأكيد على هذه القضية ،أو قد تكون كلمة «جنباً » الواردة بمعنى الجنابة التي تحدث أثناء النوم أو بسبب الاحتلام ،بينما المراد من جملة ( أو لامستم النساء ) هو الجنابة الحاصلة نتيجة المقاربة الجنسية بين الرجل والمرأة ،وإِذا فسّرنا كلمة «قمتم » الواردة في الآية بالقيام من النوم ( كما ورد في روايات أئمّة أهل البيت( عليهم السلام ) وأيضاً اشتملت الآية على قرينة بهذا الخصوص ) يكون تفسيرنا هذا تأييداً للمعنى الذي أوردناه بخصوص تكرار موضوع الجنابة .
لقد بيّنت الآيةبعد ذلكأسلوب التيمم بصورة إِجمالية فقالت: ( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ...) والواضح هنا هو أنّ المراد ليس حمل شيء من التراب ومسح الوجه واليدين به ،بل أنّ المقصود هو ضرب الكفين على تراب طاهر ثمّ مسح الوجه واليدين بهما ،لكن بعض الفقهاء استدلوا بعبارة «منه » الموجودة في الآية وقالوا بضرورة أن يلاصق الكفين شيء ولو قليل من التراب{[987]} .
بقيت مسألة أخيرة في هذا المجال ،وهي مسألة معنى كلمتي ( صعيداً طيباً )فقد ذهب الكثير من علماء اللغة إلى أنّ لكلمة «صعيد » معنيين هما التراب أوّلا ،أو كل شيء يغطي سطح البسيطة أي الكرة الأرضية ثانياً ،سواء كان تراباً أو صخراً أو حصى أو حجراً أو غير ذلك من الأشياء ،وقد أدى هذا إلى حصول اختلاف في آراء الفقهاء حول الشيء الذي يجوز التيمم به ،هل هو التراب وحده أو أنّ الحجر والرمل وأمثالهماأيضاًيجوز التيمم بهما ؟
وحين نرجع إلى الأصل اللغوي لكلمة «صعيد » الذي يدل على «الصعود والارتفاع » فإِن المعنى الثّاني لهذه الكلمة يبدو أقرب إلى الذهن .
وتطلق كلمة «طيب » على الأشياء التي تلائم الطبع والذوق الإِنساني ،وقد أطلق القرآن الكريم هذه الكلمة في موارد كثيرة مثل: «البلد الطيب » و«مساكن طيبة » و«ريح طيبة » و«حياة طيبة » وغيرها ...وكذلك فإِنّ كل شيء طاهر يعتبر طيباً ،لأنّ طبع الإِنسان ينفر من الأشياء النجسة المدنّسة ،ومن هذا نستدل على أنّ تراب التيمم يجب أن يكون تراباً طاهراً أيضاً .
وقد أكّدت الروايات الواردة إِلينا عن أئمّة الإِسلام( عليهم السلام ) على هذا الموضوع بصورة متكررة ،ونقرأ واحدة من هذه الروايات وهي تقول: «نهى أمير المؤمنين أن يتيمم الرجل بتراب من أثر الطريق »{[988]} .
والجدير بالنظر أنّ عبارة «التيمم » الواردة في القرآن والحديث بمعنى التكليف الشرعي الذي مضى الحديث عنه ،جاءت في اللغة بمعنى «القصد » والقرآن الكريم يقرر أنّ الإِنسان لدى قصد التيمم عليه أن يختار قطعة طاهرة من الأرض من بين القطعات المختلفة للتيمم منها .قطعة ينطبق عليها مفهوم «الصعيد » معرضة للأمطار والشمس والرياح ،وبديهي أن تكون قبل اتخاذهما للتيمم مثل هذه القطعة من الأرض التي لم تتعرض لوطء الأقدام ،فيها الصفات التي تستوعبها كلمة «طيب » وعندئذ فإِن هذه القطعة من الأرضبالإِضافة إلى كونها لا تضرّ بالصحّةتكون أيضاًوكما أسلفنا لدى تفسيرنا للآية ( 43 ) من سورة النساءذات أثر أيضاً في قتل الجراثيم والميكروبات ،كما يؤكّده العلماء من ذوي الاختصاص في هذا المجال .
فلسفة الوضوء والتيمم:
لقد تناولنا فلسفة التيمم بالبحث بصورة وافية في الآية ( 43 ) من سورة النساء ،أمّا بالنسبة لفلسفة الوضوء فالشيء الذي لا يختلف عليه اثنان ،هو أنّ للوضوء فائدتين واضحتين:
إِحداهما صحية والأُخرى أخلاقية معنوية ،فغسل الوجه واليدين في اليوم خمس مرّات أو على الأقل ثلاث مرات ،لا يخفى أثره في نظافة الإِنسان وصحته ،أمّا الفائدة الأخلاقية المعنوية فهي في الأثر التربوي الذي يخلفه قصد التقّرب إلى الله في نفس الإِنسان حين يعقد النيّة للوضوء بالأخصّ حين ندرك أنّ المفهوم النفسي للنية يعني أن حركة الإِنسان أثناء الوضوء والتي تبدأ من الرأس وتنتهي بالقدمينهي خطوات في طاعة الله .
ونقرأ في رواية عن الإِمام علي بن موسى الرّضا( عليه السلام ) قوله: «إِنّما أُمر بالوضوء وبدئ به لأن يكون العبد طاهراً إِذا قام بين يدي الجبار عند مناجاته إِيّاه ،مطيعاً له فيما أمره نقياً من الأدناس والنجاسة ،مع ما فيه من ذهاب الكسل ،وطرد النعاس ،وتزكية الفؤاد للقيام بين يدي الجبار »{[989]} .
وتتوضح فلسفة الوضوء أكثر في الحديث عن فلسفة الغسل ،والذي سنتناوله فيما يلي:
فلسفة الغسل:
قد يسأل البعض لماذا أمر الإِسلام بغسل كامل الجسم لدى حصول «الجنابة » في حين أن عضواً معيناً واحداً يتلوث أو يتسخ في هذه الحالة ؟
فهل هناك فرق بين البول الخارج من ذلك العضو ،وبين «المني » الخارج منه أثناء الجنابة بحيث يجزي غسل العضو وحده في حالة التبول ،بينما يجب غسل الجسم كله بعد خروج المني من العضو ؟
لهذا السّؤال جوابان ،مجمل ومفصل ،وهما كما يلي: فالجواب المجمل يتلخص في أن خروج المني من الإِنسان لا ينحصر أثره في العضو الذي يخرج منه ،أي أنّه ليس كالبول والفضلات الأخرى .
والدليل على هذا القول هو تأثر الجسم كله أثناء خروج المني من العضو بحيث تطرأ على خلايا الجسم كلها حالة من الاسترخاء والخمول ،وهذه الحالة هي الدليل على تأثير الجنابة على أجزاء الجسم كلها ،وقد أظهرت بحوث العلماء المتخصصينفي هذا المجالأن هناك سلسلتين عصبيتين نباتيتين في جسم الإِنسان ،هما السلسلة السمبثاوية ( الأعصاب المحركة ) والسلسلة شبه السمبثاوية ( الأعصاب الكابحة ) تمتدان في كافة أجزاء الجسم وأجهزته الداخلية ،وتتولى السلسلة السمبثاوية تحفيز أجهزة الجسم على العمل وتسريع عملها ،بينما السلسلة شبه السمبثاوية تعمل عكس الأولى ،فتحدّ عمل أجهزة الجسم وتبطئها فالأولى تلعب دور جهاز دفع البنزين في السيارة من أجل تحريكها والأُخرى يكون دورها دور الكابح فيها لإِيقافها عن الحركة ،وبالتوازن الحاصل في عمل هاتين السلسلتين العصبيتين تعمل جمع أجهزة جسم الإِنسان بصورة متوازنة أيضاً .
وقد تحدث في جسم الإِنسانأحياناًفعاليات تعيق استمرار هذا التوازن فيطغى عمل أحد السلسلتين العصبيتين على عمل الجملة الأُخرى ،ومن هذه الفعاليات وصول الإِنسان إلى الذروة في اللذة الجنسية ،أي ما يسمى بحالة «الأُوركازم » التي تقترن بخروج المني من عضو الإِنسان ،وفي هذه الحالة يطغى عمل السلسلة العصبية شبه السمبثاوية الكابح على عمل السلسلة العصبية الأُخرى التي هي السمبثاوية الدافعة فيختل التوازن بصورة سلبية في جسم الإِنسان ،وقد ثبت بالتجربة أن الشيء الذي يمكنه إِعادة التوازن بين عمل تلك السلسلتين العصبيتين ،هو وصول الماء إلى جسم الإِنسان ،ولما كانت حالة «الأوركازم » التي يصل إِليها الإِنسان لدى «الجنابة » تؤثر بصورة محسوسة عل أجهزة جسم الإِنسان وتخل بتوازن السلسلتين العصبيتين المذكورتين ،لذلك أمر الإِسلام بأن يباشر الإِنسان غسل كل جسمه بعد كل مقاربة جنسية ،أو لدى خروج «المني » منه ،حيث يعود بهذا الغسل التوازن بين عمل السلسلتين العصبيتين السمبثاوية وشبه السمبثاوية في كل أجزاء الجسم ،فتعود لها حالتها الطبيعية في الحركة والحياة{[990]} .
وبديهي أنّ فائدة الغسل لا تنحصر في الذي تحدثنا عنه قبل قليل ،بل أنّ الغسل يعتبر أيضاً نوعاً من العبادة التي لها آثار أخلاقية لا تنكر ،ولهذا السبب يبطل الغسل إن لم يكن مقترناً بنيّة الطاعة والتقرب إلى الله سبحانه ،لأنّ الحقيقة هي أنّ الجسم والروح كليهما يتأثران أثناء خروج «المني » من الإِنسان أو لدى حصول المقاربة الجنسيةفالروح تجر بذلك وراء الشهوات المادية ويدفع الجسم إلى حالة الخمول والركود .
وغسل الجنابة يعتبر غسلا للجسم بما يشمله من عملية إِيصال الماء إلى جميع أجزائه ،ويعتبر غسلا للروح بما يحتويه من نية الطاعة والتقرب إلى الله ،أي أنّ لهذا الغسل أثرين مادي وروحي ،يدفع الأثر المادي منه الجسم إلى استعادة حالة النشاط والفعالية ،ويدفع الأثر الروحي الإِنسان للتوجه إلى الله وإلى المعنويات .
أضف إلى ذلك كلّه أنّ وجوب غسل الجنابة في الإِسلام هو أيضاً من أجل إِبقاء جسم الإِنسان المسلم طاهراً ،كما هو رعاية للجانب الصحي في حياة الإِنسان ،وقد يوجد الكثير من الناس ممن لا يعتنون بنظافة أجسامهم لكن هذا الأمر والواجب الإِسلامي يجبرهم على غسل أجسامهم بين فترة وأُخرى ولا يقتصر التهاون في غسل الجسم على إِنسان العهود القديمة ،بل حتى في عصرنا الحاضر هناك الكثير ممن لا يعتنون بغسل أجسامهم ،بل يتهاونون في هذا الأمر الحياتي المهم ( وطبيعي أن حكم غسل الجنابة حكم عام ،وقانون كلي يشمل حتى الشخص الذي غسل جسمه قبل حصول الجنابة بقليل ) .
إِنّ الجوانب الثلاثة المذكورة فيما سبقتوضح بمجموعها سبب وجوب الغسل لدى خروج المني من الإِنسان سواء كان في أثناء النوم أو اليقظة وكذلك بعد المقاربة الجنسية ( حتى لو لم تؤد إلى خروج المني ) .
وقد أوضحت الآيةفي آخرهاأنّ الأوامر الإِلهية ليس فيها ما يحرج الإِنسان أو يوجد العسر له ،بل إِنها أوامر شرعت لتحقق فوائد ومنافع معينة للناس ،فقالت الآية ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلّكم تشكرون ) .
وتؤكد هذه العبارات القرآنية الأخيرة أنّ جميع الأحكام والأوامر الشرعية الإِلهية والضوابط الإِسلامية هي في الحقيقة لمصلحة الناس ولحماية منافعهم ،وليس فيها أي هدف آخر ،وإِنّ الله يريد بالأحكام الأخيرة الواردة في الآيةموضوع البحثأن يحقق للإِنسان طهارته الجسمانية والروحية معاً .
ويجب هنا الانتباه إلى أن جملة ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ) مع أنّها وردت في أواخر الآيات التي اشتملت على أحكام الغسل والوضوء والتيمم ،إِلاّ أنّها تبيّن قانوناً عامّاً معناه أنّ أحكام الله ليست تكاليف شاقّة أبداً ،ولو كان في أي حكم شرعي العسر والحرج لأي فرد لسقط التكليف عن هذا الفرد بناء على الاستثناء الوارد في الجملة القرآنية الأخيرة من الآية موضوع البحث ،ولهذا لو كان الصوم يشكل مشقة وعناء على أي فرد بسبب مرض أو شيخوخة أمّا ما شابه ذلك ،لسقط أداؤه عن هذا الفرد وارتفع التكليف عنه ،بناء على هذا الدليل نفسه .
ولا يخفيأيضاًأنّ هناك من الأحكام الإِلهية ما يظهر فيها الصعوبة والمشقة بذاتها مثل حكم الجهاد ،إِلاّ أنّه ولدى مقارنة المصالح التي تتحقق بالجهاد مع الصعوبات والمشاق التي فيه ،تترجح كفة المصالح وأهميتها فلا تكون المشاق أمامها شيئاً يذكر ،وقد سمي القانون الذي أثبتته الجملة القرآنية الأخيرة بقانون «لا حرج » وهو مبدأ أساسي يستخدمه الفقهاء في أبواب مختلفة ويستنبطون منه أحكاماً كثيرة .