فقوله- سبحانه-:وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ شروع في حكاية الرؤيا التي رآها ملك مصر في ذلك الوقت ...
قال ابن كثير:«هذه الرؤيا من ملك مصر، مما قدر الله- تعالى- أنها كانت سببا لخروج يوسف- عليه السلام- من السجن معززا مكرما، وذلك أن الملك رأى هذه الرؤيا، فهالته وتعجب من أمرها، وما يكون تفسيرها فجمع الكهنة وكبراء دولته وأمراءها، وقص عليهم ما رأى، وسألهم عن تأويلها، فلم يعرفوا ذلك ... ».
وقوله «عجاف» جمع عجفاء والعجف- بفتح العين والجيم- ذهاب السمن، يقال:هذا رجل أعجف وامرأة عجفاء، إذا ظهر ضعفهما وهزالهما..
أى:وقال ملك مصر في ذلك الوقت لكبار رجال مملكته:إنى رأيت فيما يرى النائم «سبع بقرات» قد امتلأن شحما ولحما يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ أى:يأكل هذه البقرات السبع السمان، سبع بقرات أخرى عجاف أى:مهازيل ضعاف.
ورأيت- أيضا- فيما يرى النائم «سبع سنبلات خضر» قد امتلأت حبا، ورأيت إلى جانبها سبع سنبلات «أخر يابسات» قد ذهبت نضارتها وخضرتها، ومع هذا فقد التوت اليابسات على الخضر حتى غلبتها.
يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أى:الأشراف والعلماء من قومي «أفتونى في رؤياي» أى:فسروا لي رؤياي هذه وبينوا لي ما تدل عليه.
إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ أى:إن كنتم تعرفون تفسيرها وتأويلها معرفة سليمة، وتعلمون تعبيرها علما مستمرا.
و «تعبرون» من العبر، وهو اجتياز الطريق أو النهر من جهة إلى أخرى وسمى المفسر للرؤيا عابرا، لأنه يتأمل فيها وينتقل من كل طرف فيها إلى الطرف الآخر، كما ينتقل عابر النهر أو الطريق من جهة إلى أخرى.
قال بعض العلماء:والتعريف في «الملك» للعهد، أى ملك مصر، وسماه القرآن هنا ملكا ولم يسمه فرعون، لأن هذا الملك لم يكن من الفراعنة ملوك مصر المصريين، وإنما كان ملكا لمصر أيام أن حكمها «الهكسوس» وهم العمالقة الذين ملكوا مصر من 1900 قبل الميلاد إلى سنة 1525 ق. م.
فالتعبير عنه بالملك هنا، دون التعبير عنه بفرعون مع أنه عبر عن ملك مصر في زمن موسى بفرعون، يعتبر من دقائق إعجاز القرآن العلمي.. .
وقال «إنى أرى» بصيغة المضارع مع أنه قد رأى بالفعل، استحضارا لصورة الرؤيا حتى لكأنها ماثلة أمامه.
وقال «وأخر يابسات» بدون إعادة لفظ سبع كما في البقرات، للاكتفاء بدلالة المقابل في البقرات عليه.
قال صاحب الكشاف:فإن قلت:هل في الآية دليل على أن السنبلات اليابسة كانت سبعا كالخضر؟
قلت:الكلام مبنى على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السمان والعجاف والسنابل الخضر، فوجب أن يتناول معنى الأخر السبع، ويكون قوله «وأخر يابسات» بمعنى:وسبعا أخر يابسات» .
وفي نداء الملك لقومه قوله يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي ... تشريف لهم، وحض على استعمال عقولهم وعلومهم في تفسير هذه الرؤيا التي أزعجته.
واللام في قوله «للرؤيا» لتقوية الفعل «تعبرون» حيث تأخر عن معموله.
ويبدو أن القوم في ذلك الزمان، كان بعضهم يشتغل بتفسير الرؤى، وكان لهذا التفسير مكانته الهامة فيهم ...
فقد مرت بنا رؤيا يوسف، ورؤيا رفيقيه في السجن، ثم جاءت رؤيا الملك هنا، وهذا يشعر بأن انفراد يوسف- عليه السلام- بتأويل رؤيا الملك، في زمن كثر فيه البارعون في تأويل الرؤى، كان بمثابة معجزة أو ما يشبه المعجزة من الله- تعالى- ليوسف- عليه السلام- حتى تزداد مكانته عند الملك وحاشيته.