ثم حض - عز وجل - أصحاب النفوس النقية الطاهرة ، على المواظبة على ما تعودوه من سخاء وسماحة ، فقال:( وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) .
وقد صح أن هذه الآية الكريمة نزلت فى شأن أبى بكر - رضى الله عنه - عندما أقسم أن لا يعطى مسطح بن أثاثة شيئا من النفقة أو الصدقة .
وكان مسطح قريبا لأبى بكر . وكان من الفقراء الذين تعهد - أبو بكر رضى الله عنه - بالإنفاق عليهم لحاجتهم وهجرتهم وقرابتهم منه .
وقوله:( وَلاَ يَأْتَلِ ) أى:ولا يحلف . يقال:آلى فلان وائتلى . إذا حلف ومنه قوله - تعالى -:( لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ . . . ) أى:يحلفون .
أى:ولا يحلف "أولوا الفضل منكم والسعة "أى أصحاب الزيادة منكم فى قوة الدين . وفى سعة المال "أن يؤتوا أولى القربى . . "أى:على أن لا يعطوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين فى سبيل الله ، شيئا من أموالهم .
فالكلام فى قوله:"أن يؤتوا "على تقدير حرف الجر ، أى:لا يحلفوا على أن لا يؤتوا ، وحذف حرف الجر قبل المصدر المنسبك من أن وصلتهما مطرد ، ومفعول "يؤتوا "الثانى محذوف . أى:أن يؤتوا أولى القرى والمساكين والمهاجرين فى سبيل الله ، النفقة التى تعودوا أن يقدموها لهم .
وقوله - تعالى -:( وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا ) تحريض على العفو والصفح .
والعفو معناه:التجاوز عن خطأ المخطىء ونسيانه ، مأخوذ من عفت الريح الأثر ، إذا طمسته وأزالته .
والصفح:مقابلة الإساءة بالإحسان ، فهو أعلى درجة من العفو .
أى:قابلوا - أيها المؤمنون - إساءة المسىء بنسيانها ، وبمقابلتها بالإحسان .
وقوله:( أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ ) أى:ألا تحبون - أيها المؤمنون أن يغفر الله لكم ذنوبكم ، بسبب عفوكم وصفحكم عمن أساء إليكم؟
فالجملة الكريمة ترغيب فى العفو والصفح بأبلغ أسلوب ، وقد صح أن أبا بكر - رضى الله عنه - لما سمع الآية قال:بلى والله يا ربنا ، إنا لنحب أن تغفر لنا ، وأعاد إلى مسطح نفقته ، وفى رواية:أنه - رضى الله عنه - ضاعف لمسطح نفقته .
قال الآلوسى:"وفى الآية من الحث على مكارم الأخلاق ما فيها . واستدل بها على فضل الصديق - رضى الله عنه - لأنه داخل فى أولى الفضل قطعا ، لأنه وحده أو مع جماعة سبب النزول ، ولا يضر فى ذلك الحكم لجميع المؤمنين كما هو الظاهر . . . ".
ثم ختم - سبحانه - الأية الكريمة بما يرفع من شأن العفو والصفح فقال:( والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) .
أى:والله - تعالى - كثيرة المغفرة ، وواسع الرحمة بعباده ، فكونوا - أيها المؤمنون - أصحاب عفو وصفح عمن أساء إليكم .