نعود الآن إلى تفسير الآية بملاحظة سبب النّزول هذا:
يقول القرآن ( ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أُولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ) .
إنّ هذا التعبير يكشف أنّ عدداً ممن تورّط في قضية الإفك كانوا من المهاجرين في سبيل الله إذْ خدعهم المنافقون ،ولم يُجز الله طردهم من المجتمع الإسلامي لماضيهم المجيد ،كما لم يسمح بعقابهم أكثر ممّا يستحقونه .
كلمة «يأتل » مشتقّة من «أليّة » ( على وزن عطيّة ) أي اليمين ،أو إنّها مشتقة من «ألُو » ( على وزن دلو ) بمعنى التقصير والترك .
وعلى هذا ،فإنّ الآية تعني وفق المعنى الأوّل النّهي عن هذا القَسَمْ بقطع مثل هذه المساعدات{[2759]} ،وعلى المعنى الثّاني النهي على التقصير في مساعدتهم وترك مثل هذا العمل .
ثمّ تضيف الآية ( وليعفوا وليصفحوا ) لتشجيع المسلمين وترغيبهم في العفو والصفح بقولها: ( ألا تحبّون أن يغفر الله لكم ) .
فإنّكم مثلما تأملون من الله العفو عنكم وأن يغفر خطاياكم ،يجب عليكم العفو والصفح عن الآخرين ( والله غفور رحيم ) .
والمثير للدهشة أنّ أصحاب الإفك أُدينوا بشدّة في آيات شديدة اللهجة ،إلاّ أنّها تسيطر على مشاعر المفرطين لمنعهم من تجاوز الحدّ في العقوبة بثلاث جمل ذاتِ تَشَعْشُع أخَّاد ،الأول: الأمر بالعفو والسماح .
ثمّ تقول: ألا تحبّون أن يغفر الله لكم ؟فينبغي عليكم أن تعفوا وتصفحوا كذلك .
ولتأكيد ذلك تذكر الآية صفتين من صفات الله «الغفور » و«الرحيم » .
وهكذا تقول الآية للناس: لا يمكنكم أن تكونوا أحرص من الله الذي هو صاحب هذا الحكم ،وهو يأمركم بألاّ تقطعوا مساعداتكم .
ممّا لاشك فيه أن جميع المسلمين الذين تورطوا في حادثة الإفك لم يكونوا مشاركين في التآمر بهذا الصدد ،ولكن المنافقين هم الذين وضعوا أساس فتنة الإفك وتبعهم مسلمون مضلَّلون .
ولا شك في أنّهم جميعاً مقصّرون ومذنبون ،ولكن بين هاتين المجموعتين فرق كبير ،وعلى هذا يجب أن لا يعامل الجميع سواسية .
وعلى كل حال ،ففي الآيات السابقة درس كبير لحاضر المسلمين ومستقبلهم ،وتذكير لهم بأن لا يتجاوزوا الحد المقرّرُ في معاقبةِ المذنبينِ ،ولا ينبغي طردهم من المجتمع الإسلامي ،أو اغلاق باب المساعدة في وجوهم ،ذلك من أجل المحافظة عليهم كي لا يزدادوا انحرافاً فيقعوا في أحضان العدو ،أو ينحازوا إلى جانبه .
وترسم هذه الآيات صورة للتعادل الإسلامي في جذبه ودفعه ،وتشكل آيات الإفك والعقوبات الشديدة التي تفرض على الذين يتهمون الآخرين في شرفهم «قوة الدفع » .وأمّا الآية موضع البحث التي تتحدث عن العفو والصفح وكون الله غفوراً رحيماً .فإنها تكشف عن «قوة الجذب » !