التّفسير
للعقوبات حساب !
على الرغم من عدم متابعة هذه الآيات حديث الإفك بصراحة ،إلاّ إنّها تعتبر مكملة لمضمون ذلك البحث ،وتحذّر المؤمنين جميعاً من تأثير الأفكار الشيطانية التي تبدو أوّلا في صورة باهتة ،فلابدّ من الإنتباه إليها ،وإلاّ فالنتيجة سيئة للغاية ،ولا يمكن تلافيها بسهولة فعلى هذا حينما يشعر الفرد بأوّل وسوسة شيطانية بإشاعةِ الفحشاء أو ارتكاب أي ذنب آخر فيجب التصدي له بقوّة حاسمة ،حتى يمنع من انتشاره وتوسّعه .
وتخاطب الآية الأُولى المؤمنين ،فتقول ( يا أيّها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنّه يأمر بالفحشاء والمنكر ){[2757]} .
وإذا فسّرنا الشيطان بأنه كل مخلوق مؤذ وفاسد ومخرّب ،يتّضح لنا شمولية هذا التحذير لأبعادِ حياتنا كلها ،وحيث لا يمكن جرّ أي إنسان مؤمن متطهر مرّة واحدة إلى الفساد ،فإنّ ذلك يتمّ خطوة بعد أُخرى في طريق الفساد:
الخطوة الأُولى: مرافقة الملوثين والمنحرفين .
الخطوة الثّانية: المشاركة في مجالسهم .
الخطوة الثّالثة: التفكير بارتكاب الذنوب .
الخطوة الرّابعة: ارتكاب الأعمال المشتبه بها .
الخطوة الخامسة: ارتكاب الذنوب الصغيرة .
وأخيراً الابتلاء بالكبائر .وكأنّ الإنسان في هذه المرحلة يسلّم نفسه لمجرم ليقوده نحو الهاوية ،أجل هذه ( خطوات الشيطان ){[2758]} .
ثمّ تشير الآية إلى أهم النعم الكبيرة التي منَّ الله بها على الإنسان في هدايته فتقول: ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكن الله يزكّي من يشاء والله سميع عليم ) .
ولا شك في أنّ الفضل والرحمة الإلهية ينقذان الإنسان من الانحطاط والانحراف من الذنوب جميعاً ،فالله منحه العَقْلَ ،ولطف به فأرسل إليهِ الرُّسُلَ ،وَيسَّرَ له سُبُلَ الارتقاء والاهتداء ،وأعانَهُ على استكمالِ الخَيْرِ .وإضافة إلى هذه المواهب شمل الله الذين تطهروا بتوفيقاته الخاصّة ،وإمداداته التي يستحقونها ،والتي تعتبر أهم عنصر في تطهير وتزكية النفس .
وكما أسلفنا .مراراً ،فإنّ عبارة «من يشاء » لا تعني المشيئة دون مبرّر ،بل إنّ الله يهدي عباده الذين يسعون في نيلها ،الذين يسيرون في الطريق إلى الله ،ويجاهدون في سبيله ،فيمسك الله بيدهم ويحفظهم من وساوس الشيطان وكيده حتى يبلغهم الهدف الأسمى .
وبعبارة أُخرى: إنَّ الفضل والرحمة الإلهية تارة يكون لهما جانب تشريعي عن طريق الرسل عليهم السلام والكتب السماوية وما فيها من تعاليم إلهية وبشارات وإنذارات سماوية .وأُخرى يتخذ الفضل والرحمة الإِلهية جانباً تكوينياً عن طريق الإِمدادات المعنوية الإِلهية .
والآيات موضع البحث استهدفت القسم الثّاني ،بدليل عبارة «من يشاء » ،ويجب الانتباه إلى أن «الزكاة » و «التزكية » تعني في الأصل النمو ،والعمل من أجل النمو ،إلاّ أنها وردتْ غالباً بمعنى التطهُّر والتطهير .
ويمكن إرجاعها إلى أصل واحد ،إذ أنّ النمو والرشد لا يمكن أن يتحققا إلاّ بزوالِ الحواجز والتطهير من المفاسد والرذائل .
وذكر عدد من المفسّرين سبباً لنزول الآية الثّانيةمن الآيات موضع البحثيكشف عن تلاحمها مع الآيات السابقة ،قال: إنّ هذه الآية نزلت بشأن عدد من الصحابة أقسموا على عدم تقديم مساعدة مالية إلى الذين تورّطوا في هذه القضية وأشاعوا هذه التهمة بين الناس ،وألا يشاركوهم همومَهم ،فنزلت هذه الآية لتمنعهم من رَدَّ فعل قاس ،وأمرتهم بالعفو والسماح .
وقد روى سبب النّزول هذا «القرطبي » في شأن نزول هذه الآيات في تفسيره عن ابن عباس والضحاك ،ورواه المرحوم «الطبرسي » عن ابن عبّاس ،ورواهُ آخرون لدى تفسير الآيات موضع البحث ،وهو يمتاز بعموميته .
إلاّ أن مجموعة من مفسّري أهل السنة يُصرُّون على أن هذه الآية نزلت بخصوص «أبي بكر » حيث أقسم بعد حادث الإفك على عدم تقديم أية مساعدة مالية ل «مسطح بن أثاثة » الذي كان ابن خالته ،أو ابن أخته ،وهو الذين نشر شائعة الإفك ،في حين أنّ الضمائر التي استعملتها الآية ،جاءت بصيغة الجمع ،وتبيّن أنّ مجموعة من المسلمين اتخذوا قراراً بقطع مساعداتهم عن هؤلاء المجرمين ،إلاّ أنّ هذه الآية نهتهم عن العمل .
ومن المعلوم أنّ الآيات القرآنية لا تختص بسبب النّزول فقط ،بل تشمل جميع المؤمنين إلى يوم القيامة ،فهي توصي المسلمين جميعاً بألاّ يستسلموا لعواطفهم ،وألاّ يتخذوا مواقف عنيفة إزاء أخطاءِ الآخرين .