أى:وما أرسلنا قبلك- أيها الرسول الكريم- أحدا من رسلنا، إلا وحالهم وشأنهم أنهم يأكلون الطعام الذي يأكله غيرهم من البشر. ويمشون في الأسواق كما يمشى غيرهم من الناس، طلبا للرزق.
وإذا فقول المشركين في شأنك «مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الأسواق» قول يدل على جهالاتهم وسوء نياتهم فلا تتأثر به، ولا تلتفت إليه، فأنت على الحق وهم على الباطل.
وقوله- تعالى-:وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً بيان لسنة من سنن الله- تعالى- في خلقه، اقتضتها حكمته ومشيئته.
أى:اختبرنا بعضكم ببعض، وبلونا بعضكم ببعض، ليظهر قوى الإيمان من ضعيفه، إذ أن قوى الإيمان لتصديقه بقضاء الله وقدره يثبت على الحق ويلتزم بما أمره الله- تعالى- به، أما ضعيف الإيمان فإنه يحسد غيره على ما آتاه الله- تعالى- من فضله. كما حسد المشركون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على منصب النبوة الذي أعطاه الله- تعالى- إياه وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ.
قال القرطبي:قوله- تعالى-:وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ أى:إن الدنيا دار بلاء وامتحان، فأراد- سبحانه- أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم في جميع الناس، فالصحيح:فتنة للمريض. والغنى:فتنة للفقير.. ومعنى هذا، أن كل واحد مختبر بصاحبه، فالغنى ممتحن بالفقير، فعليه أن يواسيه ولا يسخر منه، والفقير ممتحن بالغنى، فعليه أن لا يحسده. ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق.. والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس من الكفار في عصره ...
فالفتنة:أن يحسد المبتلى المعافى. والصبر:أن يحبس كلاهما نفسه، هذا عن البطر وذاك عن الضجر...
والاستفهام في قوله- تعالى-:أَتَصْبِرُونَ للتقرير. أى:أتصبرون على هذا الابتلاء والاختبار فتنالوا من الله- تعالى- الأجر، أم لا تصبرون فيزداد همكم وغمكم؟
ويصح أن يكون الاستفهام بمعنى الأمر. أى:اصبروا على هذا الابتلاء كما في قوله- تعالى-:... وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ..أى:أسلموا.. وكما في قوله- سبحانه-:فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ أى:انتهوا عن الخمر والميسر.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً أى:وكان ربك أيها الرسول الكريم- بصيرا بأحوال النفوس الطاهرة والخفية، وبتقلبات القلوب وخلجاتها.
فاصبر على أذى قومك، فإن العاقبة لك ولأتباعك المؤمنين.
فهذا التذييل فيه ما فيه من التسلية والتثبيت لفؤاد النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ثم حكت السورة للمرة الرابعة تطاول المشركين وجهالاتهم، وردت عليهم بما يخزيهم، وبينت ما أعد لهم من عذاب في يوم لا ينفعهم فيه الندم.