سبب النّزول
أورد جماعة من المفسّرين وأصحاب السير كابن إسحاق في سيرته في سبب نزول هذه الآية «أن سادات قريش «عتبة بن ربيعة » وغيره اجتمعوا معه( صلى الله عليه وآله وسلم )فقالوا: يا محمد ،إن كنت تحبّ الرياسة وليناك علينا ،وإن كنت تحبّ المال جمعنا لك من أموالنا ،فلما أبى رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن ذلك ،رجعوا في باب الاحتجاج معه فقالوا: ما بالك وأنت رسول الله تأكل الطعام ،وتقف بالأسواق !فعيّروه بأكل الطعام ،لأنّهم أرادوا أن يكون الرّسول ملكاً ،وعيّروه بالمشي في الأسواق حين رأوا الأكاسرة والقياصرة والملوك والجبابرة يترفعون عن الأسواق ،وكان( عليه السلام )يخالطهم في أسواقهم ،ويأمرهم وينهاهم ،فقالوا: هذا يريد أن يتملك علينا ،فما له يخالف سيرة الملوك ؟فأجابهم الله بقوله ،وأنزل على نبيّه: ( وما أرسلنا من قبلك من المرسلين إلاّ أنّهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق )فلا تغتم ولا تحزن ،فأنّها شكاة ظاهرٌ عنك عارُها »{[2830]} .
التّفسير
هكذا كان جميع الأنبياء في عدّة آيات سابقة وردت واحدة من ذرائع المشركين بهذه الصيغة: لماذا يأكل رسول الله الطعام ،ويمشي في الأسواق ؟وأجيب عليها بجواب إجمالي ومقتضب ،أمّا الآية مورد البحث فتعود إلى نفس الموضوع لتعطي جواباً أكثر تفصيلا وصراحة ،فيقول تعالى: ( وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلاّ أنّهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ) فقد كانوا من البشر ويعاشرون الناس ،وفي ذات الوقت ( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة ) وامتحاناً .
وهذا الامتحان ،قد يكون بسبب أنّ اختيار الأنبياء من جنس البشر ومن أوساط الجماهير المحرومة هو امتحان عظيم بذاته ،لأنّ البعض يأبون أن ينقادوا لمن هو من جنسهم ،خاصّة إذا كان في مستوىً واطىء من حيث الإِمكانات المادية ،وهم في مستوى عال مادياً ،أو أن أعمارهم أكبر ،أو أنّهم أكثر شهرة في المجتمع .
ويرد احتمال آخر في المراد بالفتنة ،وهو أنّ الناس عموماً بعضهم لبعض فتنة ،ذلك أن المتقاعدين والعجزة والمرضى والأيتام والمزمنين فتنة للأقوياء والأصحاء السالمين ،وبالعكس ،فإنّ الأفراد الأصحاء الأقوياء فتنة للضعفاء والعجزة .
تُرى هل أنّ الفريق الثّاني راض برضا الله !أم لا ؟
وهل أن الفريق الأوّل يؤدي مسؤوليته وتعهده إزاء الفريق الثّاني ،أم لا ؟!
من هنا ،لا تقاطع بين هذين التّفسيرين فمن الممكن أن يجتمع كلاهما في المفهوم الواسع للآية في أن الناس بعضهم لبعض فتنة .
و على أثر هذا القول ،جعل الجميع موضع الخطاب فقال تعالى: ( أتصبرون ) ؟
ذلك لأنّ أهم ركن للنجاح في جميع هذه الامتحانات هو الصبر والاستقامة والشجاعة ...الصبر والاستقامة أمام خيالات الغرور الذي يمنع من قبول الحق ...الصبر والاستقامة أمام المشكلات الناشئة من المسؤوليات وأداء الرسالات ،وكذلك الجلد أمام المصائب والحوادث الأليمة التي لا تخلو منها حياة الإنسان على كل حال .
والخلاصة: أنّ من الممكن اجتياز هذا الامتحان الإلهي العظيم بقوّة الاستقامة و الصبر{[2831]} .
ويقول تعالى في ختام الآية بصيغة التحذير: ( وكان ربّك بصيراً ) فينبغي ألا يتصور أحد أن شيئاً من تصرفاته حيال الاختبارات الإلهية يظل خافياً ومستوراً عن عين الله وعلمه الذي لا يخفى عليه شيء .إنّه يراها بدقة ويعلمها جميعاً .
سؤال:
يرد هاهنا استفسار ،وهو أن ردّ القرآن على المشركين في الآيات أعلاه قائم على أن جميع الأنبياء ،كانوا من البشر .وهذا لا يحلّ المشكلة ،بل يزيد من حدّتها ،ذلك أن من الممكن أن يعمموا إشكالهم على جميع الأنبياء .
و الجواب:
أنّ الآيات القرآنية المختلفة تدلّ على أن إشكالهم على شخص النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،وكانوا يعتقدون أنه اتخذ لنفسه وضعاً خاصاً به ،ولهذا كانوا يقولون: ما لهذا الرّسول ...
يقول القرآن في جوابهم: ليس هذا منحصراً بالرّسول الأعظم( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ،فجميع الأنبياء كانت لهم مثل هذه الأوصاف ،وعلى فرض أنّهم سيعممون هذا الأشكال على جميع الأنبياء ،فقد أعطى القرآن جوابهم أيضاً حيث يقول: ( ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلا ) «كي يستطيع أن يكون أسوة وأنموذجاً للناس في كل مجالات » .إشارة إلى أن الإنسان فقط يستطيع أن يكون مرشداً للإنسان ،فهو الواقف على جميع حاجاته ورغباته ومشكلاته ومسائله .