وقد عاد القرآن الكريم إلى رد قولهم مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، فقال عز من قائل:
{ وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ( 20 )} .
هذا بيان أن الرسل لا يكونون إلا من البشر ، وذلك ليستطيعوا أن يرشدوهم ويوجهوهم ، ويهديهم الله تعالى بهم ، ولا يمكن أن يكون ملكا ، لأنه ليس من جنسهم ، ولا يمكن أن يكون قدوة ، لأن المقتدى يكون من جنس المقتدي ، لتتم القدوة ، ولا يكون هنالك ما يكون للقدوة من خواص يختص بها ، ولأن الرسول يدعو بعمله ، ويتبع في أعماله ، فلا بد أن يكون من البشر ليتبع في أعماله ، ولأن الناس قد يحال بينهم وبين مواجهته بمحاجزات من الملوك والرؤساء ، فلا بد من رفع المحاجزات ليخلو وجه الناس لهم .
لا بد أن يكون الرسل من البشر ، وإنهم يدعون الضعفاء والأقوياء ، ولا يتبعهم ابتداء إلا الضعفاء ، ولتمام الدعوة وسلامتها ، لا بد أن يعيشوا كما يعيش الضعفاء ، فلا يكونون ملوكا أو من حواشي الملوك ، وإذا كان بعض الأنبياء ذكر بالملك كداود وسليمان ، فقد كانوا ملوكا في سلطانهم الحق ، ولكن في عيشهم كانوا يعيشون كالضعفاء ، فداود عليه السلام كان يأكل من عمل يده ، ولعل ابنه سليمان لم يكن من الملوك الذين يستقلون في معيشتهم عن رعيتهم ومن المؤكد أنه لم يكن ملكا مستعليا على رعيته ، ولا يعيش عيش ضعفائهم .
{ وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} من هنا بيانية ، والمعنى ما أرسلنا قبلك من المرسلين{ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} ، إنهم ليأكلون الطعام إلى آخره جملة حالية{ إلا أنهم} في حال يأكلون فيها الطعام أي ما أرسلناهم إلا والحال التي تحيط بهم أنهم يأكلون الطعام ، فتلك حالهم ، وبعض النحويين يقررون أن في الكلام محذوفا ( هذه صفته ) فذكرت الصفة مغنية عن الموصوف المقدر ، ويكون سياق القول ، وما أرسلنا إلا رسلا إنهم ليأكلون ، وأرى أن عد الجملة حالية أولى بالأخذ ، لأن ما لا يحتاج لتقدير أولى .
والخطاب في قوله تعالى:{ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} للناس أجمعين ، والفتنة أصلها ما يفتن به الفلز ، ليخرج منه الذي يعلق به ، وأطلق على ما تفتن به النفوس من جاه ومال ونفر ، وعلو في الأرض ، ومعنى{ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} جعل الأقوياء فتنة للضعفاء بإيذائهم ، والكافرين فتنة للرسل بعنادهم ، والأغنياء فتنة للفقراء باستعلائهم ، والضعفاء فتنة للأقوياء بسبقهم إلى الإيمان والحق ، وتأخرهم ، وهكذا كل من أعطى خيرا دنيويا أو أخرويا يكون فتنة لمن لم يكن مثله ، وإن الواجب للمفتون هو الصبر ، والواجب على أهل الحق من الأنبياء والصديقين أن يصبروا ، ولذا قال تعالى:{ أَتَصْبِرُونَ} والصبر في الفتنة هو السبيل لاجتياز المحنة والخروج منها مؤمنا خالصا ، فالاستفهام هو للتوجيه للصبر ، والتحريض ، ويلاحظ أن الله تعالى أكد أن الرسل يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق بالجملة الاسمية ، وبإن المؤكدة ، وباللام في خبرها{ ليأكلون} .
{ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} كان دالة على الدوام ، وأن الناس تحت رقابة الله دائما ، يعلم بحال الصابرين والتمكين منهم علم السميع الذي يسمع ، والبصير الذي يبصر ، ويكافئ كلا بحسب حاله التي علمها الله تعالى إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، فليعلموا عمل ما يرى ويسمع ، والله بكل شيء محيط .