ثم بين- سبحانه- أن كل من يدعى الإيمان لا يكون إيمانه صادقا إلا إذا تقبل حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إذعان واقتناع فقال:فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً.
والفاء في قوله فَلا للإفصاح عن شرط مقدر.
ولا يرى الزمخشري أنها زائدة لتقوية الكلام وتأكيد معنى القسم، فهي كقوله- تعالى-:فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ .
ويرى ابن جرير أنها ليست زائدة، وإنما هي رد على ما تقدم ذكره من تحاكمهم إلى الطاغوت وتركهم حكم شريعة الإسلام فقد قال:
«يعنى- جل ثناؤه- بقوله فلا:أى فليس الأمر كما يزعمون أنهم يؤمنون بما أنزل إليك وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدون عنك إذا دعوا إليك يا محمد. ثم استأنف القسم- جل ذكره- فقال:وربك يا محمد لا يؤمنون أى:لا يصدقون بي وبك حتى يحكموك فيما شجر بينهم».
وقوله فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ أى فيما اختلف بينهم من الأمور والتبس.
يقال:شجر بينهم الأمر يشجر شجرا وشجورا إذا تنازعوا فيه. وأصله التداخل والاختلاط. ومنه شجر الكلام، إذا دخل بعضه في بعض واختلط. ومنه الشجر:لتداخل أغصانه.
وقيل للمنازعة تشاجر، لأن المتنازعين تختلف أقوالهم، وتتعارض دعاويهم، ويختلط بعضهم ببعض.
وقوله حَرَجاً أى ضيقا وشكا، وأصل الحرج مجتمع الشيء، ويقال للشجر الملتف الذي لا يكاد يوصل إليه حرج. ثم أطلق على ضيق الصدر لكراهته لشيء معين.
والمعنى:إذا ثبت ما أخبرناك به يا محمد قبل ذلك، فإن هؤلاء المنافقين وحق ربك «لا يؤمنون» إيمانا حقا يقبله الله- تعالى- حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ أى:حتى يجعلوك حاكما بينهم، ويلجئوا إليك فيما اختلفوا فيه من أمور، والتبس عليهم منها. ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ بعد ذلك حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ أى ضيقا وشكا في قضائك بينهم وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً أى:ويخضعوا لحكمك خضوعا تاما لا إباء معه ولا ارتياب.
وفي إضافة الاسم الجليل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله- سبحانه- وَرَبِّكَ تكريم للنبي صلى الله عليه وسلم وتشريف له، وتنويه بمكانته.
وقوله لا يُؤْمِنُونَ هو جواب القسم.
وقوله ثُمَّ لا يَجِدُوا معطوف على مقدر ينساق إليه الكلام. أى:حتى يحكموك فيما شجر بينهم فتحكم بينهم ثم لا يجدوا.
وقوله تَسْلِيماً تأكيد للفعل. بمنزلة تكريره. أى تسليما تاما بظاهرهم وباطنهم من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة فقد روى الحافظ أبو نعيم والطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» .
هذا، وقد روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما رواه البخاري عن الزهري عن عروة قال:خاصم الزبير رجلا من الأنصار في شراج الحرة- أى في مسيل مياه-.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم:اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك. فقال الأنصارى:يا رسول الله!! أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال:اسق يا زبير. ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر- والجدر هو ما يدار بالنخل من تراب كالجدار-. ثم أرسل الماء إلى جارك.
قال الزبير:فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ .
وهذا السبب الخاص في نزول الآية الكريمة لا يمنع عمومها في وجوب التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وإلى الشريعة التي أتى بها بعد وفاته، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يرى جمهور العلماء.
ويبدو أن ما ذكرناه سابقا من تحاكم بعض المنافقين إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء في البخاري من تخاصم الزبير مع الرجل الأنصارى يبدو أن هذه الحوادث قد حدثت في زمن متقارب فنزلت الآيات لبيان وجوب التحاكم إلى شريعه الله دون سواها.
والمتأمل في الآية الكريمة يراها قد بينت أن المؤمن لا يكون إيمانه تاما إلا إذا توفرت فيه صفات ثلاث:
أولها:أن يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وإلى شريعته بعد وفاته.
وثانيها:أن يتقبل حكم الشريعة الإسلامية التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم برضا وطيب خاطر، وأن يوقن إيقانا تاما بأن ما يقضى به هو الحق والعدل. قال- تعالى-:ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وثالثها:أن يذعن لأحكام شريعة الله إذعانا تاما في مظهره وحسه. قال- تعالى- وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً. أى يخضعوا خضوعا تاما.
فقوله- تعالى- ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ يمثل الانقياد الباطني والنفسي.
وقوله- تعالى- وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً يمثل الانقياد الظاهري والحسى.
وهكذا نرى الآية الكريمة تحذر المؤمنين من التحاكم إلى غير شريعة الله بأسلوب يبعث في النفوس الوجل والخشية، ويحملهم على الإذعان لأحكام الله- تعالى-.