{ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم}
/م64
{ شجر بينهم} معناها تنازعوا فيما بينهم ، واختلط الحق بالباطل ، وتشابكت الأمور كما تتشابك غصون الأشجار ، وإن التحاكم يكون في مثل هذه الأمور التي تتشابك فيها عناصر الحق والباطل ، ويتلبس بعضها ببعض ، ولا يعرف الحق الصريح الواضح من بينها ، ويميزه الحاكم العادل الفاحص ، الذي ينظر إلى الأمور بعمق وتدبر وقوة فراسة ، وعزمه على الحق وطلبه بإخلاص لا هوى .
{ فلا وربك} أيها النبي الكريم ، لا يؤمنون ، ولا يعدون في عداد المؤمنين ، حتى يحكموك فيما يكون بينهم من خلاف ، فإن من أول مظاهر الإيمان والإذعان للحق الرضا بتحكيم الشرع في الخلاف .
وهنا ثلاثة بحوث لفظية:
أولها:( الفاء ) في قوله تعالى:{ فلا وربك} ونقول إنها فاء الإفصاح ، لأنها تفصح عن شرط مقدر ، ومعنى الكلام:إذا كانت طاعة الرسول واجبة بحكم أنه رسول من عند الله ، فإنهم لا يؤمنون برسالته حتى يرتضوا التحاكم إليه .
ثانيها:( لا )في قوله تعالى:{ فلا وربك}قال الزمخشري إنها زائدة لتقوية الكلام ، فيكون النص كقوله تعالى:{ فوربك لنسألنهم أجمعين( 92 )}( الحجر )وقد قال الطبري إن "لا"ليست زائدة ، وإنما هي رد على ما تقدم ذكره من تحاكمهم إلى الطاغوت وتركهم حكم الشرع ، وقد قال في ذلك:"قوله( فلا )رد على ما تقدم ذكره ، تقديره:فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ثم استأنف القسم بقوله{ وربك لا يؤمنون} .
ثالثها:أن الله سبحانه وتعالى أقسم بذاته العلية ، ولكنه أضاف الربوبية إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:{ وربك} يا أيها النبي ، تكريما لذات النبي صلى الله عليه وسلم ، وإعلاءً لشأنه ، وجواب القسم هو قوله تعالى:{ لا يؤمنون} .
ومن هذا النص السامي يتبين أن أول مظهر من مظاهر الإيمان الرضا بحكم الشرع ، ولكن الرضا وحده ليس كافيا بل لا بد من أمرين آخرين ، وهما أن يكون الرضا هن طيب نفس من غير حرج ولا ضيق ، وثانيهما التسليم والخضوع لحكم الشرع . وقد قال سبحانه وتعالى في ذلك:{ ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت} الحرج الضيق والتململ من الحكم أو الشك في صحته ، والمعنى:أن من مظاهر الإيمان أن يقبلوا التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء ، وإذا صدر الحكم لا يشكون في صحته ، ولا يضيقون ويتبرمون به ، بل يتقبلونه بقبول حسن ، لأن قبول الأحكام على أنها من عند الله ينهي الخصومات ، ويلقي بالسلام بعدها ، لأنهم تحاكموا إلى ذي الجلال والإكرام . وقد تكلم العلماء في العطف ب"ثم"بدل الفاء أو الواو ، فقال إن"ثم"تدل على التراخي ، وكأن الله يغفر لهم الإثم الذي يصيبهم عند صدمة الحكم لهم بالنطق به ، ولكن عليهم أن يروضوا أنفسهم على القبول والإذعان ، من غير ضيق ولا تململ ، لكي يكون الحكم حاسما للخلاف قاطعا للنزاع .
{ ويسلموا تسليما} هذا هو الوصف الثالث لأهل الإيمان بالنسبة لأحكام الشرع الشريف . والتسليم معناه الانقياد التام في المظهر والحس . وإذا كان الوصف الثاني لبيان الخضوع النفسي ، فهذا الوصف الثالث لبيان الخضوع الحسي الظاهر . وقد أكد سبحانه وتعالى التسليم بالمصدر ،فقال "تسليما"للإشارة إلى وجوب الإذعانالمطلق من غير أن يثيروا أي شبهة حول الحكم ، ولا أن يماروا فيه مراءً ظاهرا ، فإن المراء قد يثير نزاعا جديدا ، والقضاء يجب أن يكون حاسما قاطعا .
وأصل التسليم هو تقديم النفس ، وجعلها خالصة لمن يسلم إليه . يقال:سلم لأمر الله وأسلم له . إذ جعل نفسه خالصة لله تعالى ، ثم أطلق التسليم على الانقياد الظاهري ، وعدم المماراة فيما يقرره الشرع من حقوق وواجبات .
ويجب التنبيه إلى أن التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته هو التحاكم إلى كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فيجب أن يعلم كل من يُسمي نفسه مسلما أن الله تعالى يقرر أنه لا يؤمن من لا يتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله ، ثم لا يجد ضيقا في حكم الشرع ، بل يرضى به ، وينقاد له انقيادا ظاهرا وباطنا . وإذا كان ذلك ما يقره الشرع ، فليعلم المسلمون اليوم مكانهم من الإيمان ، وقد ارتضوا حكم القوانين الأوربية بدل كتاب الله وسنة رسوله ، وإذ دعوا إلى حكم الله ضاقت صدورهم حرجا ، وتململوا ولم يسلموا ، بل يناوئون ويعاندون ؛ إذ هم يؤمنون بما عند الأوربيين أكثر من إيمانهم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله ! ولا حول ولا قوة إلا بالله .