{ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما( 64 ) فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكمون فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما( 65 )}
/م64
{ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} ومعنى النص السامي:لا نرسل أي رسول في أي أمة ، إلا كان من شأنه أن يطاع ، وهذه الطاعة اللازمة على من أرسل إليهم هي بإذن الله بطاعته ، فالله تعالى هو الذي يأمر بطاعته ، ومن عصاه فإنما يعصى الله ، ومن أطاعه فقد أطاع الله:{ من يطع الرسول فقد أطاع الله . . .( 80 )} ( النساء ) . وفي الأثر الصحيح:"من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن عصى أميري فقد عصاني"{[753]} أي أن من يعصى الأمير المعين من قبل الرسول ، أو الذي عين على مقتضى أحكام شريعته ، فقد عصى الله ، فليس كل أمير يعد أميرا للرسول .
وقوله تعالى:{ وما أرسلنا من رسول} يدل على أبلغ عموم وأبلغ استغراق ، إذ تأكد الإستغراق بالتنكير وبحرف( من ) وبالنفي والإثبات ، وإن هذا يدل على أن الطاعة هي مقتضى الرسالة ، فأساس الإيمان بالرسالة الإيمان بأن ما يبلغ إنما يبلغ عن الله تعالى ، ولقد أيد سبحانه وتعالى هذا المعنى وهو التبليغ عن الله تعالى بقوله:{ بإذن الله} ، فكل أمر يأمر به هو من الله تعالى ، وكل ما ينهى عنه هو من الله تعالى ، كما قال تعالى:{ إن هو إلا وحي يوحى( 4 )}( النجم ) .
ويجرنا الكلام في هذا إلى الكلام في اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم:هل طاعته واجبة فيه بإذن من الله ، وبعبارة أخرى:أهو لا يخطئ فتجب الطاعة ، ويكون ما ينتهي إليه في الاجتهاد هو كالموحى به ؟ والجواب عن ذلك أنه يجوز الخطأ على النبي صلى الله عليه وسلم في الاجتهاد في بيان بعض الأحكام ، ويجوز الخطأ عليه في القضاء إذا لبَّس الخصوم . والخطأ الأول قد وقع فقد اجتهد مع أصحابه في معاملة الأسرى ، وخطأهم الله في اجتهادهم في ذلك الموضع{[754]} . وقد فرض عليه الصلاة والسلام جواز الخطأ في القضاء ، فقد قال عليه الصلاة والسلام:"إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من البعض الآخر ، فمن قضيت له بحق أخيه ، فإنما أقتطع له قطعة من النار"{[755]} . ولكن الخطأ في الأحكام لا يمكن أن يقره الله تعالى عليه ، بل يبينه ، لسلامة النقل عن الله تعالى ، وليكون كل ما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم حقا ، وليتحقق معنى قوله عليه الصلاة والسلام:"ما أمرتكم به فخذوه ، وما نهيتكم عنه فاجتنوه"{[756]} . وكذلك لا يجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في قضائه ويكون باطلا ، لأنه يكون ظلما ، ولا يقع منه عليه الصلاة والسلام ، وقوله السابق في هذا من قبيل فرض التقصير في نفسه ، كما فرض التقصير في كثير من أمره تنزها عن الغرور ، وتوجيها لنا . ولعل قوله عليه الصلاة والسلام لتعليم الناس قول الحق في مجلس القضاء ، وليبين لهم أن إثم خطأ القاضي يقع عليهم ، والقضاء لا يبرر الباطل ولا يغمط الحق ، فإن أخطأ لا يحل دينا لمن كان الخطأ لمصلحته أن يأكل مال أخيه ، أو يغمط حقه .
ولقد ذهبت الجرأة ببعض الذين يتكلمون في الفقه إلى أن ما يكون باجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون حجة . كأن النبي يمكن أن يقر على الخطأ في اجتهاده ! وذلك كلام باطل لا يكون إلا من مستهين بمقام النبوة ، وتبليغ الرسالة ! ولقد قال بعض المالكية وقولهم الحق:إن كل من لم يرض بحكم النبي صلى الله عليه وسلم وطعن فيه ورده ، فهي ردة يستتاب فاعلها ، فأولى بهؤلاء أن يصمتوا ولا يتكلموا ، فكلامهم تلبيس وأوهام لا تصدر عن عالم الدين يفهم حقائقه ، ويدرك معانيه ! .
طاعة الرسول إذن واجبة في كل ما يأمر به على أنه دين واجب الأخذ به ، وكل من يعاند الرسول في حكمه يكون ظالما لنفسه ، لأنه تمرد على أمر ربه ، ولأنه اختار الباطل بدل الحق ، ويجب عليه التوبة والاستغفار . ولذا قال تعالى في أولئك الذين يتمردون على أحكام الرسول وقضائه .
{ ولو أنهم ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما} أي:لو ثبت أن أولئك الذين تحاكموا إلى الطغيان والظلم ، من اليهود والمنافقين ، وظلموا أنفسهم بخروجهم عن جادة الحق وردهم الحق الثابت ، جاءوا إليك تائبين راجعين فطلبوا غفران الله تعالى ، وطلبت لهم ذلك لعلموا علم اليقين أن الله كثير القبول للتوبة ، رحيم بعباده ، بفتح باب المغفرة ليدخلوه آمنين مطمئنين إليه ، وما سلكوا من طريق الضلال يغفر لهم سلوكه ، لأن الله تعالى يحب قبول التوبة ويحب المغفرة . وإن مثلهم كمثل الناقة الشاردة التي يراها صاحبها ، يضع لها أسباب التقريب ، فإذا عادت إليه فرح بعودتها ، بيد أن أحدا من عباد الله لا ينفعه ! .
وهنا إشارات بيانية يجب التنبيه إليها:
أولها:أن الله تعالى سمى الذين تحاكموا إلى غير الشرع ظالمين لأنفسهم ، يستوي في ذلك من حكم له ومن حكم عليه ؛ لأن تحكيم الطاغي الظالم هو بث للظلم ونشر له ، وإذا شاع الظلم وكثر شاع معه الفساد والاضطراب ، ومن فعل ما يؤدي إلى ذلك هو ظالم لنفسه ، وظالم لجماعته التي يعيش فيها .
وثانيتها:أن الله تعالى قرن الاستغفار من الرسول بالاستغفار له ، ليشير بهذا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول من عند نفسه ، بل يقول عن الله تعالى ، ولتكريم مقام الرسالة ومقام الحاكم العادل ، فإن الإعراض عنه استهانة به ، والاستهانة بالحاكم العادل تؤدي إلى الفوضى وعدم استقرار الأحكام .
والثالثة:أن قوله تعالى:{ واستغفر لهم الرسول} فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة ، ويقول الزمخشري في ذلك"لم يقل:( واستغفرت لهم ) وعدل عنه إلى طريق الالتفات ، تفخيما لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيما لاستغفاره . وتنبيها على أن شفاعة من اسمه رسول من الله بمكان". فالالتفات كما نرى للتنبيه إلى مكانة الرسالة ، وتفخيمها ، ولبيان أن شفاعة الرسول بمقتضى كونه رسولا ، لها مقامها من الله تعالى ، وفوق ذلك أن الالتفات يؤدي إلى أن يكون الاستغفار للرسول بوصفه أنه رسول ، فالباعث على وجوب الاستغفار له هو أنه يبلغ رسالة الله ، فترك حكمه استهانة بحكم الله وهو رسول الله ، ورسول الله له حق الكرامة الكاملة .