سبب النّزول
وقع خصام بين الزّبير بن العواموهو من المهاجرينوبين رجل من الأنصار على سقي نخيلهما التي كانت متقاربة في المكان ،فترافعا إِلى النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وحيث أن نخيل الزبير كانت أعلى مكاناً من نخيل الأنصاري ،قال رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم )للزبير: «اسق ثمّ أرسل إِلى جارك » ( وقد كانت هذه هي العادة في البساتين المتجاورة آنذاك ) فغضب الأنصاري من حكم النّبي العادل هذا ،وقال: يا رسول الله لئن كان ابن عمتك ؟فتلون وجه رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) انزعاجاً من موقف الأنصاري وكلامه ،فنزلت الآية الحاضرة تحذر المسلمين من مثل هذه المواقف .
وقد ذكرت في بعض التفاسير أسباب أُخرى لنزول الآية تشابهإِلى درجة كبيرةما ذكر في سبب النزول المتقدم ( راجع تفسير التّبيان والطّبرسي ،والمنار ) .
التّفسير
التّسليم أمام الحق:
الآية ،وإِن ذكر لها سبب نزولها خاصولكننا أسلفنا غير مرّة أن أسباب النزول الخاصّة لا تنافي عمومية مفهوم الآيات ،ولهذا يمكن اعتبار هذه الآية تكميلا لما جاء من البحث في الآيات السابقة .
ولقد أقسم اللهفي هذه الآيةبأنّ الأفراد لا يمكن أن يمتلكوا إِيماناً واقعياً إِلاّ إِذا تحاكموا إِلى النّبي وقضائه ،ولم يتحاكموا إِلى غيره ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك في ما شجر بينهم ) .
ثمّ يقول سبحانه: يجب عليهم ،أن يتحاكموا إِليك فقط ،ومضافاً إِلى ذلك ليرضوا بما تحكمه ،سواءاً كان في صالحهم أو في ضررهم ولا يشعروا بأي حرج في نفوسهم فضلا عن أن لا يعترضوا ،وبالتالي ليسلموا تسليماً .
( ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلموا تسليماً ):
والإِنزعاج النفسي الباطني من الأحكام التي ربّما تكون في ضرر الإِنسان ،وإن كان في الأغلب أمراً غير إختياري ،إلاّ أنّه على أثر التربية الخلقية المستمرة يمكن أن تحصل لدى الإِنسان روح التسليم أمام الحق ،والخضوع للعدالة ،خاصّة بملاحظة المكانة لواقعية النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،فلا ينزعج من أحكام النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،بل ولا من أحكام العلماء الذين يخلفونه ،وعلى كل فإِن المسلمين الواقعيين مكلفون دائماً بتنمية روح الخضوع للحق ،والتسليم أمام العدل في نفوسهم .
إِن الآية الحاضرة تبيّن علائم الإِيمان الواقعي الراسخ في ثلاث مراحل:
1أن يتحاكموا إِلى النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم )وحكمه النابع من الحكم الإِلهيفي ما اختلفوا فيه ،كبيراً كان أم صغيراً ،لا إِلى الطواغيت وحكام الجور والباطل .
2أن لا يشعروا بأي انزعاج أو حرج في نفوسهم تجاه أحكام الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم )وأقضيته العادلة التي هيفي الحقيقةنفس الأوامر الإِلهية ،ولا يسيئوا الظن بهذه الأحكام .
3أن يطبقوا تلك الأحكامفي مرحلة تنفيذهاتطبيقاً كاملا ويسلموا أمام الحق تسليماً مطلقاً .
ومن الواضح أنّ القبول بأي دين وأحكامه في ما إِذا كانت في مصلحة الإِنسان وكانت مناسبة لمنافعه وتطلعاته ،لا يمكن أن يكون دليلا على إِيمانه بذلك الدين ،بل يثبت ذلك إِذا كانت تلك الأحكام في الإِتجاه المتعاكس لمنافعه وتطلعاته ظاهراً ،وإِن كانت مطابقة للحق والعدل في الواقع ،فإِذا قبل بمثل هذه الأحكام وسلم لها تسليماً كاملا كان ذلك دليلا على إِيمانه ورسوخ اعتقاده .
فقد روي عن الإِمام الصادق( عليه السلام ) في تفسير هذه الآية: «لو أن قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا البيت وصاموا شهر رمضان ثمّ قالوا لشيء صنعه الله وصنع رسوله( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم صنع هكذا وكذا ،ولو صنع خلاف الذي صنع ،أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين ،ثمّ تلا هذه الآية ( الحاضرة ) ثمّ قال( عليه السلام ): عليكم بالتسليم »{[833]} .
ثمّ أنّه يستفاد من الآية الحاضرة مطلبان مهمّانضمناً:
1إِنّ الآية إحدى الأدلة على عصمة النّبي الأكرم( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،لأنّ الأمر بالتسليم المطلق أمام جميع أحكامه وأوامره قولا وعملا ،بل والتسليم القلبي والخضوع الباطني له أيضاً دليل واضح على أنّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يخطئ في أحكامه وأقضيته وتعليماته ،ولا يتعمد قول ما يخالف الحق فهو معصوم عن الخطأ ،كما هو معصوم عن الذنب أيضاً .
2إِنّ الآية الحاضرة تبطل كلّ اجتهاد في مقابل النص الوارد عن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،وتنفي شرعية كل رأي شخصي في الموارد التي وصلت إِلينا فيها أحكام صريحة من جانب الله تعالى ونبيّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
وعلى هذا الأساس فإِن ما نراه في التاريخ الإِسلامي من اجتهاد بعض الأشخاص في مقابل الأحكام الإِلهية والنصوص النبوية ،وقولهم: قال النّبي كذا ونقول كذا ،فليس أمامنا حياله إِلاّ أن نذعن بأنّهم عملوا على خلاف صريح هذه الآية ،وخالفوا نصها .