/ت60
ميزان الإيمان الحق: الانصياع المطلق لحكم الله ورسوله
ويعود القرآنمن جديدليحدّد للمؤمنين الحدّ الفاصل بين الإيمان وعدمه ،{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} بكلمة الإيمان التي يقولونها ،أو بمظاهره وشعائره التي يحملونها ،بل لا بد من الموقف الصعب الحاسم الذي يضع الأمور في نصابها الصحيح{حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ؛فإذا اختلفوا في أية قضية من قضايا الحياة ،وتعدّدت الاراء التي يدلي بها هذا الفريق أو ذاك ،فإن علامة إيمانهم أن يجعلوك الحاكم في ما يأخذون أو يدعون ،وذلك من خلال صفتك الرساليّة ،ليكون رجوعهم إليك وتحكيمهم لك رجوعاً إلى الرسالة وتحكيماً لها في جميع أمورهم التي يختلفون فيها .فإن معنى ذلك أنهم لا يجدون لأنفسهم الحق في الاستقلال في رأي ما ،بعيداً عن الرسول والرسالة ،ولا يتطلعون في جميع قضاياهم الحياتية إلى أي شخص آخر ،أو أي فكر آخر ،وذلك هو معنى الإيمان الذي يلتزم بالقاعدة ولا يلتزم بأية قاعدة غيرها .فإذا حكمت بينهم بأمرٍ ،مما يلتقي برغباتهم الذاتية أو مما لا يلتقي بها ،فإنهم سيرتفعونعند ذلكعن الخضوع لمشاعرهم الخاصة ،فلا يقومون بأيّ عمل سلبي ضد هذا الحكم ،ولا يتعقّدون في داخلهم من أجله ،بل يتقبلونه برحابة صدر ورضا نفس ،ويستسلمون لحكم الله في دعةٍ واطمئنان ،لأنه يملك منهم ما لا يملكونه من أنفسهم .وهذا هو معنى قوله تعالى:{ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} .
من علامات إيمان المؤمن
وقد نستوحي من هذه الآية ،أن من علامات إيمان المؤمن أن يقف أمام المراحل الصعبة التي يقطعها في مجالات الجهاد والدعوة إلى الإسلام ،ليحدّد موقفه من خلال حاجة المرحلة ؛فقد تفرض عليه أن يكبت انفعالاته ويجمّد حماسه عندما تقتضي مصلحة الإسلام ذلك ؛وقد تفرض عليه أن يتقدّم في بعض المواقف ويقف في بعضها الآخر ،فلا يخضع لهوى نفسه ولرغبة مزاجه ،بل يجعل الإسلام نصب عينيه من خلال ما يفرضه عليه حكم الله ليسير على هدى ذلك ،باعتبار أنه الحكم العدل الذي لا ينحرف ولا يزيغ .
الآية وعصمة النبي( ص )
وقد نستوحي من ذلك التأكيد على عصمة النبي محمد( ص ) من خلال التسليم الكلي لحكمه ،سواء أكان الحكم متصلاً بالخط التشريعي الذي يشرعه الله في أحكام الناس في قضاياهم العامة ،أم كان متصلاً بالجانب القضائي في منازعات الناس في أمورهم الخاصة أمامه ،أم كان متحركاً في تفاصيل الواقع كله ،لأنه يمثل الحقيقة التي لا مجال فيها لأيّ ريب أو لأية شبهةٍ مما قد يدور في خاطر الأوهام من احتمالات الخطأ ،لا سيّما أن الله ربط ذلك بالإيمان بحيث يفقد المرء إيمانه إذا ابتعد عن هذا الخط المستقيم ،فلو كان النبي معرّضاً للخطأ في أيّ شيء من ذلك أو واقعاً تحت تأثير احتمالات الخطيئة ،لكان للناس الحق أن يراجعوا أحكامه في حسابات النقد التحليلي الذي يمكن أن يثير السؤال أو يبحث عن الوضوح في أجواء الغموض .
إذا كان النبي( ص ) يمثل الحقيقة البيضاء الناصعة ،فلا مجال لأيِّ اجتهاد خاص أو عام في مقابل أي حديث صادر عن النبي( ص ) ،وليس هناك أية فرصة للاراء الشخصية المتنوعة من أية جهةٍ أو من أيّ شخص .
ومن الطبيعي أن ذلك مختص بما صدر عن النبي محمد( ص ) بطريق اليقين أو الاطمئنان المستقر ،أمّا إذا لم يكن موثّقاً بطريقةٍ حاسمة ،فبإمكان الباحثين من العلماء الذين يملكون سعة الاطلاع واجتهاد البحث أن يناقشوا ويدققوا في مضمون هذا الحديث أو ذاك في مقارنةٍ دقيقة مع القرآن ،أو يلاحقوا علامات الاستفهام في سنده ،لأن القضية هي قضية الإسلام الذي لا بد أن تكون العقيدة والمفهوم والشريعة فيه منطلقةً من المصادر الموثوقة الخاضعة لموازين النقد العلمي الواسع العميق .