قوله تعالى: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) ،تتضافر الأقوال والدلائل على أن سبب نزول هذه الآية العظيمة هو تخاصم الزبير مع رجل من الأنصار في سقاية ،فقد أخرج البخاري بإسناده عن عروة قال: خاصم الزبير رجلا في شراج الحرة فقال النبي ( ص ):"اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك "فقال الأنصاري: آن كان ابن عمتك ؟فتلّون وجه رسول الله ( ص ) ثم قال:"اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ثم أرسل الماء إلى جارك "وبذلك فإن النبي ( ص ) قد استوفى للزبير حقه بعد أن أحفظه ( أغضبه ) الأنصاري مع أنه عليه السلام كان قد قضى بينهما بما فيه سعة لهما وتصالح بينهما على أن يسقى الزبير أولا وذلك لقربه من الماء{[782]} .
قوله: ( فلا وربك لا يؤمنون ) تقديره: فلا يؤمنون وربك لا يؤمنون .فأخبر أولا وكرره بالقسم ثانيا فاستغنى بذكر الفعل في الثاني عن ذكره في الأول أو أن قوله: ( فلا ) رد على ما تقدم ذكره .والتقدير .فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك .ثم استأنف القسم بقوله: ( وربك لا يؤمنون ) .
وقال صاحب الكشاف: ( فلا وربك ) معناه: فوربك .كقوله تعالى ( فوربك لنسألنهم ) ولا هنا زائدة لتأكيد معنى القسم .وقوله: ( لا يؤمنون ) جواب القسم{[783]} .وهذا الكلام الرباني يتضمن نفيا حاسما لما يتصوره الخاطئون والمنافقون من إيمان وهم يتحاكمون للطاغوت كيفما كان ضربه أو لونه .فليس من احتكام لغير الله وما ذلك إلا صورة مكشوفة من صور الشرك التي لا يتشبث بها إلا اللاهثون وراء الطواغيت .ثم يحلف الله بذاته الكريمة العظيمة ليقطع في تأكيد عام تنتفي معه حقيقة الإيمان عن أحد من الناس إلا إذا تحاكم إلى الله في كتابه وإلى النبي عليه السلام في سنته وذلك ( فيما شجر بينهم ) أي ما وقع بينهم من خصام وتنازع .وشجر بمعنى اختلف ومنه الشجر لاختلاف أغصانه وتداخل بعضها في بعض .
قوله: ( ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا ...) فإذا قضيت بينهم بشرع الله فليس لهم بعد ذلك أن يستشعروا في دخائل أنفسهم شيئا من ضيق أو سخط بل إن عليهم أن يأخذوا بحكمك وقضائك عن رضى وقناعة وطواعية دون أن يثير ذلك في نفوسهم شيئا من تبرّم أو امتعاض .وإنما عليهم أن ينقادوا لأمرك وقضائك انقيادا فيه الخضوع والاستسلام لأمر الله ،وكلمته التي تسبق كل كلام والله يقول في ذلك: ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) .
وبذلك يمكن الوقوف على اعتبارات ثلاثة حين اشتراط تحقق الإيمان وتمامه في النفوس وهي على النحو التالي مستمدة من الآية المبينة:
الأول: أن الاحتكام لا يجوز بحال من الأحوال أن يكون لأحد غير رسول الله ( ص ) وهو الذي لا ينطق عن الهوى ثم هو الذي نيط به أن يبلغ الناس دعوة الله وقد خوله الله أن يبين للناس ما نزل إليهم .
الثاني: أن لا يجد الناس في أنفسهم غضاضة أو تبرما أو ضيقا لدى الاحتكام لكتاب الله وسنة نبيه الكريم .بل عليهم أن يأخذوا بذلك عن نفس راضية مطمئنة ،ورغبة حقيقية لحّاحة .
الثالث: أن يسلّموا لأمر الله تسليما فيه الانقياد الكامل وذلك بغير وناء أو تردد أو تلجلج أو استنكاف .
وعلى ذلك فإن من الأهمية بمكان أن نديم التنويه باستمرار عن خطورة الانثناء عن تطبيق شريعة الله والجنوح نحو الشرائع والعقائد التي اصطنعتها أدمغة البشر فإن ذلك ليس إلا تعديا صارخا على خصائص الألوهية ،تلك الخصائص التي تتجلى في جملة حقائق يأتي في مقدمتها التشريع وهو شأن منوط بالألوهية وليس لأحد من البشر أن ينتحله أو يصطنعه بإطلاق .فإنه ليس في مثل هذا الانتحال أو الاصطناع إلا الخروج عن دائرة الإسلام في عقيدته وشرعه .إنه ليس في ذلك إلا التمرد المتوقح على الله والتطاول عليه سبحانه بانتزاع خصيصة أساسية كبرى من خصائص الألوهية وهي التشريع ،ذلك أن الله وحده هو الخالق الموجد وأنه القادر المبدع وأنه المشرّع الديّان فلا شريك له في مثل هاتيك الخصائص العظيمة سواء في ذلك الخلق أو القدرة أو التشريع .