قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ } ، الآية :[ 1 ] :
اعلم أن النفل هو الزيادة في اللغة ، على القدر المستحق ، ومنه النوافل{[1337]} والنفل يكون من الإمام للسرايا التي تتقدم الجيش الأعظم ، مثل أن يقول للسريّة : لكم الربع بعد الخمس ، أو يقول : من أصاب سهماً فهو له ، على وجه الحث على القتال والتضرية على العدو ، أو يقول : من قتل قتيلاً فله سلبه ، فأما بعد إحراز الغنيمة فلا يجوز له أن ينفل شيئاً من نصيب الجيش ، ويجوز له أن ينفل من الخمس .
وقد اختلف في سبب نزول الآية ، فقد روي عن سعد أنه قال :
أصبت يوم بدر سيفاً ، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت له : نفلنيه : فقال : ضعه من حيث أخذت ، فنزل قوله : { يَسأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ } ، قال فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اذهب خذ سيفك .
وروي عن ابن عباس أنه قال : { يَسأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ } ، الأنفال هي الغنائم التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ليس لأحد فيها شيء ، ثم أنزل الله تعالى : { واعْلَمُوا أَنّمَا غَنِمْتُم مِنْ شَيءٍ فَأَنَّ للهِ خُمسَهُ وَلِلرَّسُولِ{[1338]} } .
وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم تحل الغنائم لقوم سود الرؤوس قبلكم ، كانت تنزل نار من السماء فتأكلها ، فلما كان يوم بدر أسرع الناس في الغنائم ، فأنزل الله تعالى : { لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسّكُم فِيمَا أَخَذْتُم عَذَابٌ عَظِيمٌ ، فَكلُوا مِمّا غَنِمتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً{[1339]} } .
ورووا عن عبادة بن الصامت وابن عباس وغيرهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل يوم بدر أنفالاً كثيرة مختلفة وقال : من أخذ شيئاً فهو له . واختلفت الصحابة فقال بعضهم : نحن حمينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا ردءاً لكم{[1340]} ، وقال قوم : نحن قاتلنا وأخذنا ، فلما اختلفنا وساءت أخلاقنا انتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقسمه غير الخمس ، وكان في ذلك تقوى وطاعة رسول الله ، وصلاح ذات البين لقوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ والرَّسُولِ فَاتّقُوا اللهَ وأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنكُم } ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ليرد قوي المسلمين على ضعيفهم " .
وبين الله تعالى ، أن ذلك مما يظهر به إيمانهم ، وأنه لا يجدون في أنفسهم حرجاً بما قضى به رسول الله تعالى ، فهو معنى قوله : إن كنتم مؤمنين .
قال الرازي : وهذا غلط ، وإنما قال النبي عليه الصلاة والسلام يوم حنين : " من قتل قتيلاً فله سلبه{[1341]} " .
وقوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ والرَّسُولِ } : نزل بعد حيازة غنائم بدر ، وما كانت الغنائم قبل ذلك تحل . وهذا ليس بصحيح ، لإمكان أن الله تعالى أحلها يوم بدر للمسلمين ، ولكن لما اختلفوا انتزع منهم وجعل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومما قاله في ذلك ، أنه عليه الصلاة والسلام كيف يقول : من أخذ شيئاً فهو له ويخلف وعده . وهذا ليس بشيء ، فإنه ما أخلف وعده ، لإمكان أنه كان كذلك ، ولكن ورد بعده الناسخ ، لما اختلفوا ، وإنما جعل لهم ذلك بشرط ألا يختلفوا ، خلا خبر فيما قاله .
فإذا ثبت ذلك ، فاعلم أن قوله : يسألونك عن الأنفال ، ظاهر في أنهم سألوه عن مال معلوم ، وأن الجواب في ذلك ، أن ذلك لله والرسول ، ومعلوم أن كل شيء فهو لله تعالى ملكاً حقاً ، فلم يختلف العلماء أن المراد به استضياع كلام .
فتحصل من الجواب أن الأنفال للرسول ، وظاهر هذا القول يقتضي أمرين : إما أن يكون ملكاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو وضعه حيث يريد ، وإن لم يملكه حقيقة .
فعلى هذا الوجه اختلف العلماء ، فقال بعضهم : إن للرسول عليه الصلاة والسلام أن ينفل ذلك على المجاهدين على ما يراه صلاحاً ، وقال بعضهم : بل ذلك ملك الرسول أو كالملك له ، حتى يصرفه إلى من شاء .
وظاهر قوله : { فاتقُوا اللهَ وأَصْلِحُوا ذَاتَ بَينِكم } : كالدلالة على أنه متى أراد وضع ذلك فيهم ، تنازعوا واختلفوا ، فأنزل الله تعالى ذلك ، بعثاً لهم على الرضا بما يفعله من القسمة بينهم ، وذلك دليل على أنه ليس بملك له ولا لهم وإلا كانوا في ذلك كغيرهم ، وكان لا يكون لقوله تعالى : { فاتقُوا اللهَ وأَصْلِحُوا ذَاتَ بَينِكُم } معنى ، فإن أراد المريد بالملك أن له أن يتصرف فيه على ما يراه ويختاره فنعم ، وإن أراد به الاستبداد والانتفاع به ، فما ذكرناه كالمانع منه ، وقيل لذلك نفل ، لأن الغنائم لما لم تكن مباحة من قبل ، كانت كأنها عطية زائدة من الله تعالى ، فسميت أنفالاً لذلك{[1342]} .