قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بالْعُقُود }{[1044]} الآية [ 1 ] : اعلم أن العقود في الشرع منقسمة إلى ما يجب الوفاء به وإلى ما لا يجب وإلى ما لا يجوز :
فأما ما لا يجوز مثل عقود الجاهلية على النصرة على الباطل في قولهم : دمي دمك ، ولا مالي مالك ، وأنا أجبرك ، فيعاهده على أن ينصره على الباطل ، ويمنع حفاً توجه عليه ، فهذا لا يجب الوفاء به . والوجه الآخر : ما يتخير في الوفاء به . والوجه الثالث : ما يجب الوفاء به ، والذي يجب الوفاء به ، هو الذي يتضمن تحقيق حق أوْجب الله تعالى الوفاء به .
فإذا انقسمت العقود إلى باطل وصحيح ، فربما يقول القائل : الأصل اتباع الشروط والعقود ، نظراً إلى مطلق اللفظ ، والقائل الآخر يقول : إنما يجب علينا اتباع عقود شرعية ورد الشرع بها ، ولذلك قال عليه السلام : " ما بال أقوام يشترطون ما ليس في كتاب الله تعالى ؟ كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل{[1045]} " .
ولا شك أن الذي ورد الشرع به محصور مضبوط ، والذي يمكن اشتراطه مما يهجس في النفس ، فمما لا نهاية له ، فلا يمكن أن يقال إن الأصل وجوب الوفاء بكل ما يهجس في النفس ، فيعقد عليه ، بل الشرع ضبط لنا ما يجب الوفاء به ، والباقي مردود ، فهو كقول القائل : افعلوا الخير ، لا يجوز أن يحتج به في وجوب كل خير ، فإن ما لا يجب فعله من الخيرات لا نهاية له ، فالمخصوص مجهول على ذلك ، وكذلك المخصوص من الشروط ، فإن الباطل من الشروط لا نهاية له ، وإنما الجائز منها محصور ، فعلى هذا لا يجوز التعلق بعموم قوله عليه السلام :
" المؤمنون عند شروطهم{[1046]} " ، ولا بمطلق قوله : { أوفوا بالعقود } ، فهذا هو المختار فيه .
والذي هو عقد أو يسمى عقداً ، ينقسم إلى ما كان على المستقبل ، وإلى ما كان على الماضي ، أما ما على المستقبل : مثل قول القائل : والله لأفعلن ،
وأما على الماضي : كقول القائل : والله لقد كان كذا ، ويقال في مثله : إنه عقد اليمين عليه ، لا على معنى أنه عزم على فعل شيء ، فإن اليمين يعقد على فعل الغير من غير أن يصح العزم عليه ، وإنما معناه أنه يظهر المحلوف عليه ، ويحيل إلى غيره تحقيقه ، فينظر ما يكون من عاقبة يمينه ، وفي الماضي إظهار الصدق قائم ، وقصد تحقيق القول قائم ، فيقال عقد اليمين ، أي قصد تحقيق قوله وتصديق نفسه ، فهو عقد من هذا الوجه .
يبقى أن يقال هو في علم الله تعالى غير منعقد ، فيقال هو في علم الله تعالى ، وإن لم يقصد تحقيق ما حلف لعلمه به ، ففي المستقبل ربما لا يتصور منه العقد ، ولكن يحيل العقد ، وربما ظن الصدق في الماضي ، فيقصد تحقيق قوله بعقد اليمين ، فسمي عقداً من هذا الوجه .
واعلم أنه قد تبين بما قدمناه ، أن كل عهد وعقد لا يجب الوفاء به ، فمطلق قوله { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } ، محمول على القيد في قوله : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا{[1047]} } ، وإنما عنى به العقد مع الله سبحانه فيما أمر الله تعالى عباده بالوفاء به وإلا فكل يمين على منع النفس من مباح أو واجب ، فذلك مما لا يجب الوفاء به لقوله صلى الله عليه وسلم : " من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير{[1048]} " .
نعم ، اختلف أصحاب الشافعي فيما إذا نذر قربة من غير أن يستنجح بها طلبة أو يستدفع بها بلية ، فمنهم من أوجب لأنها داخلة تحت قوله تعالى : { وأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إذَا عَاهَدْتُمْ } ، ومنهم من لم ير ذلك ، لأنه ليس إلى العباد إيجاب ما لم يوجبه الله تعالى عليهم ، فإن الذي وجب ، إنما وجب لعلم الشرع أنه داعي إلى المستحسنات العقلية ، وناهي عن المستقبحات العقلية ، ولا يجوز ذلك فيما يوجبه العبد على نفسه .
والقول الآخر يقول : إن العبد إذا باشر السبب الموجب ، أوجبه الله تعالى عليه ، فيكون من العبد مباشرة السبب الوحيد ، وكون السبب موجباً عرف بالشرع ، فوجب بإيجاب الشرع ، لا بغيره ، وهذا بيّن .
ولعل الأظهر اندراج ذلك تحت العموم ، ولا خلاف أن المباح نذره لا يوجب شيئاً ، لأنه لا يتوهم كونه داعياً إلى المستحسنات العقلية ، ولا أن له في الوجوب أصلاً يتوهم ، كون هذا داخلاً تحته ، وهذا بيّن لا غبار عليه .
ولما حلف الصديق على ما كان فعله خيراً من تركه ، قيل له : { وَلاَ يأتَلِ أوُلُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ والسّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولي القُرْبَى{[1049]} } ، فحنث الصديق عن نفسه ، وكفر عن يمينه .
قوله تعالى : { أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } الآية [ 1 ] : قيل في الأنعام : إنها الإبل والبقر والغنم ، وقيل يقع الأنعام على هذه الأصناف الثلاثة ، وعلى الظباء وبقر الوحش ، ولا يدخل فيها الحافر ، لأنه أحد من يعمه الوطء ، والذي يدل على تناوله للجميع ، استثناؤه الصيد منها ، بقوله في نسق الآية : { غَيْرَ مُحِلي الصَّيْدِ وأَنْتُمْ حُرُمٌ } ، ويدل على أن الحافر ليس داخلاً في الأنعام قوله تعالى : { وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ ومِنْهَا تَأْكُلُونَ{[1050]} } ثم عطف عليه قوله تعالى : { وَالخَيْلَ والبِغَالَ والحَمِيرَ{[1051]} } ، فلما استأنف ذكرها وعطفها على الأنعام ، دل على ذلك على أنها ليست منها .
وذكر ذاكرون دقيقة فقالوا : لما قال تعالى : { يَا أيُّهَا الذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بالْعُقودِ } ، أذن ذلك بأن الإباحة مجازاة على الوفاء بالعقود ، فإن الكفار محظور عليهم ذبح البهائم ، فإن ذبح البهائم إنما عرفت إباحته بالسمع ، والسمع إنما عرف بنبوته صلى الله عليه وسلم ، فإذا تثبت ذلك ، فلا يباح ذبح البهائم للكفار ، وإن كانوا أهل الكتاب . وهذا بعيد ، فإنه لو لم يكن مباحاً لهم ، لما جاز للمسلمين تناول ذبائحهم ، ويمكن أن يجاب عنه بأنه محرم أن يذبحوا ، ولكن إذا ذبحوا على تسمية الكتاب حل للمسلم .
وبالجملة ، هذا طريق المعتزلة ، وعندنا لا يحرم قبل السمع شيء ، ولا يحل أيضاً ، فإن الحكم حكم الله تعالى ، فلا تعلق له بما تقدم على هذا الطريق ، فاعلمه .
قوله تعالى : { إلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ } : يحتمل أن يكون فيما قد حصل تحريمه قبل ذلك ، فالباقي على الإباحة ؟ إلا ما خصه الدليل ، فيكون عاماً محتجاً به . ويحتمل أن يكون المراد بقوله { إلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ } : إلا ما يريد أن يحرمه ، فيكون مؤذناً بورود بيان من بعد ، إلا أن ذلك لا يقتضي التخصيص ، ولا يتحقق فيه معنى الاستثناء ، إذا لم يكن محرماً في الحال .
ويحتمل أن يريد به إلا ما قد حرم عليكم مطلقاً ، وسيرد بيانه ، فعلى هذا يكون القدر المخصوص منه مجملاً لجهالة المخصوص ، أو يجوز أن يكون الكل قد ورد دفعة واحدة ، فيذكر الكلام مطلقاً إلا ما سيرد تفصيله ، ويسوق الكلام إلى غايته ، ويكون ذلك كمطلق يعقبه خصوص ، ويسوق الكلام إلى آخره .
نعم ، قوله { إلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ } ، لا يتناول محل الصيد ، فإنه لو استثنى ذلك سقط حكم الاستثناء الثماني ، وهو قوله { غَيْرَ مُحِلّي الصَّيْدِ } ، وصار بمثابة قوله { إلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ } ، وهو تحريم الصيد على المحرم ، وذلك تعسف في التأويل ، ويوجب ذلك أيضاً أن يكون الاستثناء من إباحة الأنعام مقصوراً على الصيد ، وقد علمنا أن الميتة من بهيمة الأنعام مستثنى من الإباحة ، فهذا تأويل لا وجه له .
وقوله { غَيْرَ مُحِلّي الصَّيْدِ } : لا يخلو إما أن يكون مستثنى مما يليه من الاستثناء ، فيصير بمنزلة قوله تعالى : { إلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ } إلا محلي الصيد وأنتم حرم ، فلو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام ، لأنه مستثنى من المحظور ، إن كان قوله تعالى { إلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ } سوى الصيد مما قدمناه ، ويستثنى تحريمه في الثاني ، وأن يكون معناه : أوفوا غير محلي الصيد ، وأحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم .