قوله تعالى : { يَا أيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَحِلوا شَعَائرَ اللهِ } الآية [ 2 ] : روي عن ابن عباس أنها مناسك الحج ، فعلى هذا تشتمل على الصفا والمروة والبدن وغيرها . وقيل معالم الله تعالى وأحكامه : شعائره ، فإن شعائره مأخوذة من الأعلام ، ومنه مشاعر البدن وهي الحواس ، وهي أيضاً المواضع التي أشعرت بالعلامات ، ومنه قول القائل : شعرت به : أي علمته ، لا يشعرون : أي لا يعلمون ، ومنه الشاعر ، لأنه شعر بفطنته بما لا يشعر به غيره ، فالشعائر العلامات .
فقوله تعالى : { لاَ تُحِلوا شَعَائِرَ اللهِ } : اشتمل على جميع معالم دين الله ، وهو ما أعلمنا الله تعالى من فرائض دينه وعلاماتها أن لا تتجاوز واحدة ولا تقصر فيما دونها ، وهذا أشمل التأويلات .
والهدي : ما يتقرب به من الذبائح والصدقات ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " المبكر للجمعة كالمهدي بدنة . . " ، إلى أن قال - " كالمهدي بيضة {[1052]} " ، فسماها هدياً ، فتسمية البيضة هدياً - لا محمل له ، إلا أنه أراد بالهدي الصدقة ، ولذلك قال العلماء : إذا قال جعلت ثوبي هدياً ، فعليه أن يتصدق به .
إلا أن الإطلاق ينصرف إلى أحد الأصناف من الإبل والغنم ، وسوقها إلى الحرم وذبحها فيه ، وهذا شيء تلقى من عرف الشرع من قوله : { فإنْ أُحْصرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ{[1053]} } ، أراد به الشاة . . وقد قال تعالى : { يَحْكُمْ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيَاً بَالِغَ الكَعْبَةِ{[1054]} } ، وقد قال تعالى : { فَمَنْ تَمَتّعَ بِالْعُمْرَةِ إلىَ الحَجَّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيَ{[1055]} } ، وأقله عند الفقهاء شاة ، فإذا أطلق الهدي ، تناول ذبح أحد هذه الأصناف الثلاثة في الحرم .
فقوله تعالى : { وَلاَ الهَدْيَ } أراد به النهي عن إحلال الهدي الذي قد جعل للذبح في الحرم ، وإحلاله : استباحته لغير ما سيق له من الفدية ، وفيه دلالة على المنع من الانتفاع بالهدي بصرفه إلى جهة أخرى ، ويدل على تحريم الأكل من الهدي نذراً كان أو واجباً ، من إحصار أو جزاء صيد ، ويمنع الأكل من هدي المتعة والقران ، على ما هو مذهب الشافعي ، وخالفه فيه أبو حنيفة .
وفيه تنبيه على أصل آخر ، وهو أن الشافعي يقول : إذا كان مطلق الهدي يتناول الأصناف الثلاثة على خلاف ما يقتضيه حق الوضع ، فهو لعرف الشرع وتقييده المطلق من الهدي بالأصناف ، فإذا كان كذلك فلم نجد في عرف الشرع ، إلا أن لفظ الهدي تكرر في الكتاب في مواضع ، فاقتضى ذلك كون الهدي صريحاً في التقييد بالأصناف الثلاثة ، وإن تناول من حيث اللغة ما سواه ، كذلك لفظ الفراق والسراح من حيث تكررا في الكتاب والسنة ، صارا صريحين في معنى الطلاق ، وإن كان اللفظين محتملين لما سواه ، وهذا بيّن ظاهر .
قوله تعالى : { وَلاَ الشّهْرَ الحَرَامَ{[1056]} } : عنى به الأشهر الحرم ثلاثة متوالية وواحدة مفرد ، المفرد رجب ، والمتوالية ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ،
وذلك منسوخ بجواز قتل الكفار في أي وقت كان{[1057]} .
وقوله : { وَلاَ القَلاَئدَ{[1058]} } : نهى عن استباحة الهدي وصرفه إلى جهة أخرى ، ونهى عن التعرض للقلائد : وهي أن المحرمين كانوا يقلدون أنفسهم والبهائم من لحا شجر الحرم ، وكان قد حرم إذ ذاك ما هذا وصفه ، فنسخ ذلك في الآدمي ، وقرر في البهائم على ما كان .
وإذا كان كذلك ، فلا يجوز استباحته ، ويجوز التصدق به ، ولكن إذا فعل ذلك ، فمجرد فعله لا نقول إنه حرم ، ولكن لا بد من النية ، وليس في الآية تعرض لها .
قوله { لاَ تُحِلُّوا شَعَائَر اللهِ } : نسخها قوله : { فاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ{[1059]} } ، و { إن جَاؤكَ فاحكُم بينَهُم بما أنزَلَ اللهُ{[1060]} } .
وقوله : { وَلاَ آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ } : معناه أن الكفار كانوا إذا قلدوا أنفسهم قلادة من شعر منعته من الناس ، وكان الكفار على هذه السنة ، فأمر المسلمون أن لا يتعرضوا لهم ، ولا يتعرض للكفار الذين يؤمون البيت ، ثم أنزل الله تعالى بعد هذا : { إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامهمْ هَذَا{[1061]} } ، وقال : { مَا كَانَ للمُشْرِكينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجدَ اللهِ شَاهِديِنَ عَلىَ أَنْفُسهمْ بالْكُفْرِ{[1062]} }
قوله تعالى : { وَلاَ آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً منْ رَبهِّمْ{[1063]} } الآية [ 2 ] : وهو التجارة ، { ورِضْوَاناً } : وهو الحج ، وذلك يدل على أن الذي يقصد الحج لا يلزمه الإحرام إلا إذا أراد الحج ، فإن الله تعالى يقول : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً منْ رَبِّهمْ وَرِضْوَاناً } ، وهو قول للشافعي .
ثم قال : { وَاذَا حَلَلْتُمْ فاصْطَادُوا } : هذا إطلاق وإباحة لما كان قد حرم من قبل .
قوله تعالى : { وَلاَ يَجْرِمَنّكُمْ شَنآنُ قَوْمٍ }{[1064]} الآية [ 2 ] : معناه : أي لا يكسبنكم شنآن قوم ، أي البغض ، أن تتعدوا الحق إلى الباطل ، والعدل إلى الظلم . .
قال صلى الله عليه وسلم : " أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك " ،
وفيه دليل على أنه إنما يجوز مقابلة الظالم بما يجوز أن يكون عقوبة له وقد أذن فيه ، فأما بالجنايات والمحظورات فلا يجوز معاقبته .
ذكروا أن سبب نزول الآية ، أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، كانوا بالحديبية حين صدهم المشركون عن البيت ، فمر بهم ناس من المشركين من أهل نجد يريدون العمرة ، فقالوا : إنا نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم . فنزلت هذه الآية : { وَلاَ آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ{[1065]} } .