قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيكُمُ المَيْتَةُ } الآية [ 3 ] : بيناه من قبل ، وكذلك الدم ، وكذلك لحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ، وكل ذلك شرحناه في سورة البقرة ، والمنخنقة كمثل .
والموقوذة : المضروبة بالخشب ونحوه حتى تموت ، ومنه المقتول بالبندقية ، كذلك فسّره ابن عمرو عدي بن حاتم قال : قلت يا رسول الله إني أرمي بالمعراض فأصيب فآكل . ؟ فقال : " إذا رميت بالمعراض وذكرت اسم الله تعالى فأصاب فخرق فكل ، وإن أصاب بعرضه فلا تأكل " ، وعن عدي قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض فقال : " ما أصاب بحده فخرق فكل ، وما أصاب بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل{[1066]} " ، فجعل ما أصاب بعرضه من غير جراحة موقوذة ، وإن لم يكن مقدوراً على ذكاته ، وذلك يدل على أن شرط ذكاة الصيد الجراحة وإسالة الدم . لا جرم قال الشافعي في قول : إن أخذ الكلب الصيد فقتله ضغطاً ، فإنه لا يحل ما أصاب بعرض المعراض .
قوله تعالى : { والمُتَرَدِّيَة } : هي الساقطة من أعلى جبل فتموت ، وهذا الإشكال فيه ، إن حصل ذلك بغير فعل الآدمي فهو ميتة ، وما رداه الواحد منا ، فلا يحل أيضاً ، فإنه ليس ذكاة شرعية .
قوله تعالى : { وما أكل السّبعُ } : يعني وما أكل السبع منه حتى يموت ، ومعلوم أن الباقي لم يأكله السبع وهو المحرم ، ولكن العرب يسمون ما قتله السبع وأكل منه : أكيلة السبع ، فيسمون الباقي منه أكيلة السبع وهو فريسته .
فكل ما تقدم ذكره في الآية مما نهى عنه أريد به الموت ، فالميتة أصل في التحريم وما عداها ، من الموقوذة ، والمتردية ، وأكيلة السبع ملحقة بها ، وإن لم يمت الحيوان حتف أنفه .
قوله تعالى : { إلاَّ مَا ذَكّيْتُمْ } .
على صورة الاستثناء ، ولا يجوز أن يرجع إلى جميع المذكور قبله ، لأن الميتة لا يرجع إليها الاستثناء ، وكذلك الدم ولحم الخنزير ، وإن ذلك لا يجوز أن تلحقه الذكاة ، وكذلك قوله : { مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بهِ{[1067]} } ، فإنه محمول على المذبوح على أسماء الأصنام ، فلا يقال في مثله : إلا ما ذكيتم ، فلا رجوع إلى الاستثناء إلا ما قبل المنخنقة ، فبقي ما قيل المنخنقة على حكم العموم ، ومن قوله المنخنقة إلى موضع الاستثناء ، أمكن رد الاستثناء إليه .
فيقال : المنخنقة أو الموقوذة محرمة ، إلا ما أدرك زكاته وفيه حياة مستقرة ، فإنه يحل بالذكاة .
يبقى أن يقال : إنما يباح ما يباح ، أو يحرم ما يحرم بعد الموت ، فإذا خنق شاة ثم خلاها وفيها حياة مستقرة ، ثم ذبحت بعد ذلك ، فلا تسمى منخنقة ، وإنما تسمى مذكاة ، والمنخنقة هي التي تموت بالخنق فقط ، فعلى هذا يحتمل أن يقال : إلا ما ذكيتم ، استثناء منقطع بمنزلة قوله : لكن ما ذكيتم ، كقوله تعالى : { فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌُ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إيمانُها إلاَّ قومَ يونس{[1068]} } .
وليس في الكلام المتقدم على الاستثناء ما يقتضي الاستثناء ، فإن تقدير الكلام : فهلا كانت القرية آمنت فنفعها إيمانها : أي لينفعها إيمانها عند الله وفي الدنيا ، فلا تعلن له بقوم إلا قوم يونس ، فإنه ليس رفعاً لشيء مما تقدم ، ومعناه : لكن قوم يونس لما آمنوا ، وكذلك قوله تعالى : { طَهَ مَا أَنْزَلَنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقََى ، إلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يخْشَى{[1069]} } ، وليس قوله : إلا تذكرة لمن يخشى ، رفعاً لشيء من قوله : لتشقى ، ولكن معناه : لكن تذكرة لمن يخشى ، ومثله قوله تعالى : { إلاَّ الّذِينَ ظَلَمُوا{[1070]} } على بعض الأقوال ، وكذلك قوله : { لا يَخَافَ لَدَي المُرْسَلُونَ إلا مَنْ ظَلَمَ{[1071]} } ، ومثله : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إلا المَوْتَةَ الأُولَى{[1072]} } .
ويمكن أن يقال إنه استثنى على بعض الوجوه ، وتقديره : حرمنا كل ما قتلتموه ، وحرمنا الميتات كلها إلا السمك والجراد ، وحرمنا كل دم إلا الكبد والطحال .
فعلى هذا التقدير يستقيم الاستثناء ، إلا ما زكيتم ، مطلق مصروف إلى ما جعل ذكاة شرعاً ، وإلا فالعرب لا تفصل في الذكاة بين الموقوذة والمنخنقة ، والذكاة بالحديد .
ولا تعرف العرب من الذكاة قطع الحلقوم واللثة وحالة خاصة ، فظاهر الحال أنه محال على بيان مقدم .
قوله تعالى : { وأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ } : إنما ذكره عقيب ما تقدم ، ومعنى استقسام : طلب علم ما قسم له بالأزلام ، وإلزام أنفسهم ما يأمرهم به القداح بقسم اليمين ، والاستقسام بالأزلام ، أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزواً أو تجارة أوغير ذلك من الحاجات ، أجال القداح وهي الأزلام وهي ثلاثة أضرب : منها نهاني ربي ، ومنها ما نهاني ربي ، ومنها غفل لا كتابة عليه ، فإذا خرج الغفل أجال القداح ثانية ، وهذا إنما نهى الله تعالى عنه فيما يتعلق بأمور الغيب ، فإنه لا تدري نفس ما يصيبها غداً ، فليس للأزلام في تعريف المغيبات أثر .
فاستنبط بعض الجاهلين من هذا الرد على الشافعي في الاقتراع بين المماليك في العتق ، ولم يعلم هذا الجاهل ، أن ما قاله الشافعي بناء على الأخبار الصحيحة ، ليس مما يعترض عليه بالنهي عن الاستقسام بالأزلام ، فإن العتق حكم شرع ، فيجوز أن يجعل الشرع خروج القرعة علماً على حصول العتق قطعاً للخصومة ، أو لمصلحة يراها ، ولا يساوي ذلك قول القائل : إذا فعلت كذا أو قلت كذا ، فذلك يدل في المستقبل على أمر من الأمور ، فلا يجوز أن يجعل خروج الاقتراع علماً على شيء يتجدد في المستقبل ، ويجوز أن يجعل خروج العتق علماً على العتق قطعاً فظهر افتراق البابين{[1073]} .