قوله تعالى : { يسألونك مَاذَا أُحِل لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطّيِّبَاتُ } الآية [ 4 ] :
ذكروا في الطيبات قولين : أحدهما : أنها بمعنى الحلال ، وذلك أن ضد الطيب وهو الخبيث ، والخبيث حرام ، فإذا الطيب هو الحلال ، والأصل فيه الاستلذاذ ، فيشبه الحلال في انتفاء المضرة منها جميعا ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطّيِّبَاتِ{[1074]} } يعني الحلال ، وقال : { يُحِلُّ لَهُمُ الطَيِّبَاتِ ويُحرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ }{[1075]} وهي المحرمات ، وهذا فيه بعد من وجه ، فإنه إن كان الطيب بمعنى الحلال ، فتقديره : يسألونك ماذا أحل لهم ، قل أحل لهم الحلال ، فيكون معناه ، إعادة العبارة عما سألوا عنه من غير زيادة بيان ، فيكون بمثابة من يقول : يسألونك ماذا أحل لهم ، قل أحل لهم ما أحل لكم ، وهو لا يليق بيان صاحب الشريعة ، وكذلك في قوله تعالى : { يَا أَيُّها الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطّيِّبَاتِ } ليس المراد به الحلال فقط ، وكذلك قوله : { يُحِلُّ لَهُمْ الطّيِّباتِ } ، ومعنى الجميع ما يستطاب من المأكولات ، ليس أنه التعبير عن نفس الشيء .
وأبان بذلك أنه على مناقضة اليهود الذين أخبر الله تعالى عنهم بقوله : { فَبِظُلمٍ مِنَ الّذِينَ هَادُوا حَرَّمنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلّتْ لَهُمْ{[1076]} } : فقال مخبراً عن هذا الدين ، إن هذا الدين يحل لهم الطيبات ، ويتضمن التسهيل ، ودفع الإصر والأغلال التي كانت على المتقدمين .
وهذا حسن بين في إبانة معنى الآية ، على خلاف ما قالوه من المعنى الآخر ، ولما كان كذلك قال الشافعي : أبان الله تعالى أنه أحل الطيبات ، والطباع فيما يستطاب من الأشياء واستخبائها مختلفة ، فوجب اعتبار حال فريق من الفرق الذين بعث الرسول إليهم ، فإنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى أمم مختلفة لهمم والأخلاق والطباع ، ولا يمكن اعتبار استطابة الأمم على اختلافها ، فجعلت العرب الذين هم قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصلاً ، وجعل من عداهم تبعاً لهم ، فكل ما تستطيبه العرب هو حلال ، كالثعلب والضب ، وما لا فلا .
فبين الشافعي علة حل لحم الضب ، فإن الضب مستطاب عند العرب وإن كان لا تشتهيه نفوس العجم ، فهذا تمام ما أردنا بيانه من هذا المعنى .
قوله تعالى : { وَمَا عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مَكَلِّبِينَ{[1077]} } : اعلم أن في ظاهر الآية وقفة للمتأمل ، فإن الله تعالى قال : يسألونك ماذا أحل لهم - ثم قال في الجواب - قل أحل لكم الطيبات وما علمتم ، . . . فيقتضي أن يكون الحل المسئول عنه متناولاً للمعلم من الجوارح المكلبين ، وذلك ليس مذهباً لنا ولا لأحد ، فإن الذي يبيح لحم الكلب إن صح ذلك عن مالك ، فلا يخصص الإباحة بالمعلم ، فقل هذا في الكلام حذف وتقديره : قل أحل لكم الطيبات - ومن جملته - صيد ما علمتم من الجوارح ، ويدل عليه ما روي عن عدي بن حاتم قال : لما سألت رسول الله عن صيد الكلب ، لم يدر ما يقول حتى نزلت : { وَمَا عَلّمتُم مِن الجَوَارحِ مُكَلّبِينَ } .
وذكر بعض من صنف في أحكام القرآن{[1078]} ، ما يدل على أن الآية تناولت ما علمنا من الجوارح ، وهو ينتظم الكلب وسائر جوارح الطير ، وذلك يوجب إباحة سائر الانتفاع ، فدل على جواز بيع الكلب والجوارح والانتفاع بها بسائر وجوه المنافع ، إلا ما خصه الدليل وهو الأكل ، وهذا في غاية البعد عن الحق ، فإن قول الله تعالى : { يسألونك مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ } لم يتناول السؤال عن وجوه الانتفاع بالأعيان في البياعات والهبات والإجارات ، فإنه لو كان كذلك ، لم يكن جوابه ذكر الطيبات وما علمتم من الجوارح ، ثم يقول في مساق ذلك : { فَكُلُوا مّما أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } ، ولا يتعرض لسائر وجوه الانتفاع من البيع والهبة ، يدل على ذلك أن السؤال إنما يتناول الأكل فقط ، والجواب كان عن ذلك ، وكيف ينتظم في الكلام أن يسأل عما ينتفع به من الأشياء ، فيذكر في خلال ذلك الكلب بمعنى البيع ، وصيد الكلب بمعنى الأكل ، وليس جواز البيع في المعلم لكونه معلماً ، فإن غير المعلم مثله من كلب الحراثة والحراسة وغيرهما ؟
وقوله : { وَمَا عَلمْتُم مِنَ الجَوارِحِ } : يقتضي بمطلقة جواز تناول كل ما اصطاده الكلب المعلم لمالكه ، وإن لم يجرحه ، وهو قول الشافعي .
وقوله تعالى مكلبين مع قوله من الجوارح ، يتناول الكلب والفهد والصقر ، لأن اسم الجوارح يقع على الجميع ، وروي عن علي في بعض السواد أنه قال : لا يصلح ما قتله البزاة ، وذلك خلاف الإجماع ، واسم الجوارح يقع على كل ما يجرح أو يجترح ، أو إن عنى به الكواسب للصيد على أهلها ، كالكلاب وسباع الطيور والتي تصطاده وغيرها ، وأحدها جارح ، وبه سميت الجارحة لأنه يكتسب بها ، ومنه قوله : { أَمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرَحُوا السّيِّئَاتِ{[1079]} } ، وذلك يدل على جواز الاصطياد لكل ما علم الاصطياد من سائر ذي الناب من السباع ، والمخلب من الطير ، وقيل في الطير إنها تجرح أو تخلب ، وإذا ثبت ذلك فقوله " مكلبين " أي مضرين على الصيد كما تضرى الكلاب ، والتكليب هو التضرية ، يقال كلب يكلب إذا ضرى بالناس ، ولا تخصيص في ذلك للكلاب دون غيرها من الجوارح .
وإذا كانت التضرية شاملة وثبت ذلك ، فقد صار كثير من الصحابة أي أن الإمساك على المالك المذكور في الآية في قوله : { فَكُلُوا ممّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } ، هو الانقياد للمالك في الإضراء والارعواء ، فإذا لم تهرب منه بعد الاصطياد واحدة فلا يحرم أصلاً ، وإن أكل منه .
وأبو حنيفة وأصحابه{[1080]} ، شرطوا ترك الأكل في الكلب والفهد ، ولم يشترطوه في الطيور . والشافعي{[1081]} مال إلى هذا الفرق في قوله ، وسوى في ترك الأكل بينهما ، وهو القياس .
وإذا تبين ذلك فقوله تعالى : { فَكُلُوا ممّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } إن كان المراد به ترك الأكل ، ما كان قوله : { وَمَا عَلّمْتُم مِنَ الجَوَارِحَ مُكَلّبِينَ } متناولاً للبازي ، ولأجل ذلك قال علي : لا يحل صيد البازي أصلاً ، فإنه لا يتحقق تعليمه على ترك الأكل .
واعلم أن الظاهر يقتضي أن يكون المراد بقوله : { فَكُلُوا ممّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } : أي كلوا مما اصطدن بأمركم وإرسالكم ، وكان الاصطياد صادراً عن إعزائكم{[1082]} ، ولذلك ذكر الجوارح مطلقاً ولم يتهيأ لعاقل أن يقول : إن ترك الأكل دليل على أن الكلب قصد الإمساك للمالك ، فإنه لا وقوف على نية الكلب ، ولا أن كلباً في العالم ينوي الأخذ للمالك دون نفسه ، بل قصده لنفسه تحقيقاً .
وقيل : الصيد هو الذكاة ، وترك الأكل شرط بعد الموت ، ويبعد أن يكون ما بعد الموت شرطاً في الذبح . . نعم ، إنا نشترط معرفة غاية الانقياد للمالك ومخالفة عادته القديمة ، وذلك بأن لا يقدم دون إرسال الصيد ، وإن أوقفه وقف ، وكأن الذي شرط ترك الأكل ، شرط ذلك ليبين به مخالفة عادته وطبعه . وإذا ثبت ذلك ، صح من هذه الجهة ، أن قوله تعالى : { فَكُلُوا ممّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } ، ليس أنه أراد به نية الكلب في الإمساك للمالك .