قوله تعالى : { اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطّيِّبَاتُ{[1083]} } : معنى الطيبات ما مضى .
وقوله اليوم ، يجوز أن يكون اليوم الذي نزلت فيه الآية ، ويجوز أن يكون المراد به اليوم الذي تقدم ذكره في قوله : { اليَوْمَ يَئِسَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ{[1084]} } ، و { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ{[1085]} } ، قيل : إنه يوم عرفة{[1086]} في حجة الوداع .
واعلم أنه ليس المقصود من ذكر اليوم ها هنا صورة اليوم ، وإنما المراد به الزمان ، كما يقال أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأيام أبي بكر وعمر ، وهو من قبيل ما يكون معنى الزمان منه أعم من اللفظ سابقاً إلى الفهم . مثله قوله تعالى : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ{[1087]} } .
ولم يرد به صورة اليوم ، وإنما عنى به الزمان ، حتى إنه لو فرَّ من الزحف ليلاً كان آثماً .
قوله تعالى : { وَطَعَامُ الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌ لَكُمْ{[1088]} } : معناه ذبائحهم{[1089]} ، إذ لا يجوز أن يكون المراد به طعامهم{[1090]} ، إذ لا شبهة على أحد في حلِّ سائر طعامهم ، سواء كان المتولي لصنعه كتابيّاً أو مجوسِيّاً .
فإذا كان أكل ذبيحة أهل الكتاب بالاتفاق ، فلا شك أنّهم لا يُسمُّون على الذبيحة ، إلا على الإله الذي ليس معبوداً حقيقة ، مثل العزيرُ والمسيح ، ولو سَمُّوا الإله حقيقة ، لم تكن تسميتهم بطريق العبادة ، وإنما تكون على طريق آخر ، فاشتراط التسمية لا على وجه العبادة لا يعقل .
ووجود التسمية من الكافر وعدمها بمثابة واحدة ، إذا لم تتصور منه العبادة ، ولأن النصارى إنما يذبحون على اسم المسيح ، وقد حكم الله تعالى بحل ذبائحهم مطلقاً ، وفي ذلك دليل على أن التسمية لا تشترط أصلاً ، كما يقول الشافعي .
قوله تعالى : { والمُحْصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ{[1091]} } : يدل على جواز نكاح الكتابيات ، وقوله : { وَلاَ تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ }{[1092]} يمنع نكاح النصارى ، فإذا لم يكن بدّ من إعمالها صار الشافعي إلى تحريم الأمة الكتابية ، أخذاً من قوله تعالى : { وَلاَ تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ } ، وأباح نكاح الحرة الكتابية بقوله : { والمُحْصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ أوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } ، والجمع بينهما أولى من تعطيل أحدهما .
وقد منع مانعون من نكاح الكافرات ، كتابيات كن أو مجوسيات ، وحملوا قوله : { والمحصَنَاتُ من الذينَ أوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } المراد به أنهن كن كتابيات ثم أسلمن ، كما قال الله تعالى في آية أخرى : { وإنَّ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَمنْ يُؤْمِنُ باللهِ ومَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ{[1093]} } ، وقوله تعالى :
{ لَيْسُوا سَوْاءً مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللّيْلِ{[1094]} } الآية ،
والمراد به من كان من أهل الكتاب وأسلم{[1095]} .
وقوله : { والمُحْصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ أوتُوا الكِتَابَ مِنْ قبلكم } فالمراد به من كان من أهل الكتاب وأسلم ، وهذا بعيد ، فإنه تعالى قال : { والمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ{[1096]} } ، وذلك يشتمل على جميع المؤمنات ، فلا يجوز أن يعطف بعده المؤمنة على المؤمنة ويكون إسقاط فائدة ذكر المؤمنة .
والذي يحرم نكاح الحرة الكتابية يعتصم بقوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ{[1097]} } ، وذلك محمول عند مخالفهم على الحربية إذا خرج زوجها مسلماً ، والحربي وتخرج امرأته مسلمة ، ويدل عليه قوله : { واسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ }{[1098]} الآية ، وحكي عن ابن عباس{[1099]} أنه لم يجوِّز نكاح الكتابيات إذا كن حربيات ، لقوله تعالى : { قَاتِلُوا الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ }{[1100]} الآية ، وقال : { لا تَجِدُ قَوْمَاً يُؤْمِنُونَ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ{[1101]} } . والنكاح يوجب المودة لقوله تعالى : { خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسكُنُوا إلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً{[1102]} } ، ويجوز أن يكون ذلك عند مخالفتهم ، على معنى التشدد عليهم فيما أوجبه الدين ، وإلا فيجوز شراء الأشياء وبيعها منه ، وإن كانت الهبة سبب المودة .