قوله تعالى : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ{[1103]} } الآية : واعلم أن ظاهر الآية ، يعلق الوضوء بالقيام إلى الصلاة ، وليس الأمر كذلك إجماعاً{[1104]} ، فلا بد من ضمير معه ، وذلك هو الحدث ، والذي هو الحدث إذا قدرناه علة ، فتكرير العلة هو الذي يقتضي تكرير الحكم ، والقيام إلى الصلاة ليس شرطاً ولا علة ، ولو قدر شرطاً ، فالحكم لا يتكرر بتكرر الشرط ، فليس في الآية ما يدل على وجوب الوضوء لكل صلاة من حيث اللفظ .
فإذا قال القائل لامرأته : إذا دخلت الدار فإنك طالق ، لم يتكرر الطلاق بتكرر الدخول ، ولكن التكرار في الطهارة عند تكرار الحدث لاعتقاد كون الحدث علة ، والحكم يتكرر بتكرر العلة والسبب .
إذا ثبت هذا ، فالله تعالى يقول : { فاغسِلوا وُجوهَكُم{[1105]} } ، قال مالك بن أنس : عليه إمرار الماء على الموضع ودلكه بيده ، وإلا لم يكن غاسلاً ، وقال غيره : عليه إجراء الماء وليس عليه دلكه ، ولا شك في أنه إذا انغمس في الماء أو غمس وجهه أو يده ولم يدلك ، يقال إنه قد غسل .
واعلم أنه لا تغيير في ذلك إلا حصول الاسم ، وإذا حصل كفى . . . والمعتبر أن يجرى عليه من الماء ما يزيد قدر المسح ، فلو مسح المغسول لم يجز ، فإن الله تعالى فرق بينهما ، وليس في المسح غسل ، نعم إذا غسل المسموح ، جاز المأمور به وزيادة .
ثم قوله : { فاغْسِلوا وجوهَكُمْ } ، ليس يقتضي نية العبادة ، نعم قال تعالى : { إذا قُمتم إلى الصلاة فاغسلوا } ، وظن ظانون من أصحاب الشافعي الذين يوجبون النية في الوضوء أنه لما أوجب الوضوء عند القيام إلى الصلاة ، دل على أنه أوجبه لأجله ، وأثبته بسببه ، وأنه أوجب له قصد النية .
وهذا ليس بصحيح ، فإن إيجاب الله تعالى عليه الوضوء لأجل الحدث ، لا يدل على أنه يجب عليه أن ينوي ذلك ، بل يجوز أن يجب لأجله ، ويحصل دون قصد تعليق الطهارة بالصلاة ، ونيتها لأجلها .
وقيل لهم : لما قال الله تعالى : { اغْسِلوا وجوهَكُمْ } ، أوجب فعل الغسل ، فكانت النية شرطاً في صحة الفعل ، لأن الفرض من قبل الله تعالى ، فينبغي أن يجب فعل ما أمره الله تعالى به .
فإذا نحن قلنا : إن النية لا تجب عليه ، لم يجب عليه الفعل : أي فعل ما أمره الله تعالى ، ومعلوم أَن الذي اغتسل تبرداً أو لغرض آخر ، ما قصد أداء الواجب ، والذي وجب عليه فعله لا يحصل دون قصده .
فإن قيل : قد يجب عليه أشياء عدة ، وتحصل دون النية ، مثل رد المغصوب والودائع وإزالة الأنجاس . . فيقال : كل ذلك لا يجب عليه فيه فعل ، وإنما ينهى عن استدامة الغصب ، ويجب عليه ترك ذلك ، وها هنا يجب عليه فعل الوضوء{[1106]} . . قالوا : وقد يجب على الرجل الإنفاق على قريبه وزوجته وقضاء ديونه ، ولا يحتاج إلى النية . . والجواب : أن كل ذلك معلق وجوبه على أغراض ، متى حصلت تلك الأغراض لم يتحقق الوجوب ، مثل النفقة تجب للكفاية ، فإذا حصلت الكفاية لم تجب ، أو لغرض آخر من الأغراض العاجلة ، وليس أمر الطهارة كذلك ، فإن وجوبها لم يكن إلا لحق التعبد ، فإذا وجب الفعل لله تعالى ، فما لم يفعل لله تعالى كان الأمر قائماً ، وليس فعل غير القاصد أداء للأمر ولا قياماً به ، فاعلمه .
وذكر الرازي في أحكام القرآن على هذا كلاماً دل به على قلة تحصيله ، فقال : إنما يجب ما ذكروه في الفروض التي هي مقصودة لأعيانها ، ولم تجعل شرطاً لغيرها ، فأما ما كان شرطاً لصحة فعل آخر فلا يجب ذلك فيه بنفس ورود الأمر ، إلا بدلالة تقارنه ، والطهارة شرط للصلاة ، فإن من لا صلاة عليه فليس عليه فرض الطهارة ، كالحائض والنفساء .
وهو الذي ذكره باطل ، فإن كونه شرطاً لغيره ، معناه توقف وجوبه على وجوب فعل آخر ، وذلك لا يدل على عدم وجوبه ، ووجوب فعله ، وقصد الامتثال فيه . . نعم ، وجوبه لغيره ، يدل على أنه إذا نوى ما قد وجب لأجله كفاه ، مثل أن ينوي الطهارة للصلاة أو لمس المصحف .
ومن علمائنا من شرط فيه نية القربة ، لأنه رأى الطهارة واجبة تعبداً إلا أن وجوبها عند وجوب فعل آخر .
قالوا : الطهارة ليست واجبة تحقيقاً ، وإنما الصلاة ممتنعة دونها ، كما أنها ممتنعة دون الستر والاستقبال وطهارة الثوب ، ولذلك نقول إنه إذا أراد قراءة القرآن وهو جنب اغتسل ، وإذا أراد دخول مسجد وهو جنب اغتسل{[1107]} ، ليس لأن الطهارة واجبة في هذه الحالة ، وكيف تجب والذي يظهر له من الفعل غير واجب ؟ وإنما يحرم ذلك الفعل دون وجود شرط جوازه وهو الطهارة ، وذلك ليس يبني عن وجوبه في نفسه . وليس يمكن أن يقال أن وجوب الصلاة ، يدل على وجوب ما لا بد منه للصلاة ، لأنه يقال : ليس يجب عليه الفعل في نفسه ، وإنما يحرم عليه أن يصلي محدثاً ، أو أن يخرج عن كونه محدثاً بإمرار الماء على الأعضاء ، سواء كان في ذلك الوقت ، أو توضأ قبله لمس مصحف أو قراءة قرآن وغير ذلك مما لا يجب من الأفعال ، ويدل على أن الوضوء واجب من حيث الحقيقة : أنه لو هوى من موضع عال من غير قصد منه ، إلا أنه على مسامته ماء طاهر طهور ، ونوى الوضوء صح .
ومعلوم أن النية قصد ، والقصد يستدعي مقصوداً ، والمقصود ليس فعلاً له ، ولا يمكن أن يقال إن حصوله في الماء فعله ، فإنه لا يتعلق باختياره ، فالذي لا اختيار له فيه ، كيف يقدر مقصوداً له ؟ وهذا كلام عظيم الوقع عند المتأملين . . ويجاب عنه بأن الطهارة واجبة حقيقة ، فإنها وإن وجبت عند وجوب غيرها ، فليس من ضرورة تعلقها بغيرها ، أو من ضرورة وجوب غيرها حقيقة مثل أخذ جزء من الرأس في استيعاب الوجه ، فإنه لا بد منه للاستيعاب حقيقة ، وأما العضو ، فإنه شرط شرعاً ، وإذا صار شرطاً صار شرط وجوبه بالشرع ، ومتى كان وجوبه بالشرع ، لم يخرج عن كونه واجباً .
وأما الذي ذكروه إنه لم يجب ، ولكنه تحريم الصلاة مع الحدث ، فيقال : ولا معنى للحدث إلا امتناع أفعال يتوقف وجودها على وجود شرطها ، فهذا معنى الحدث لا غير .
وقوله إنه لو أراد دخول مسجد أو قراءة قرآن وجب الغسل ، لا لأن قراءة القرآن واجبة ، فيقال بل الأمر كما ذكرتم في أن القراءة لا تجب ، ولكن للنوافل شروط يجب فعلها إذا أراد فعل النوافل ، فإن من أراد مباشرة أمر ، وجب عليه مباشرة شروطه ، إلا أن الشروط في ذواتها غير واجبة . فأما إذا كانت الطهارة قد تقدمت ، فذلك لأن الشيء الواحد يكون شرطاً في أشياء كثيرة ، كما أن من الأشياء ما يكون شرطاً في شيء واحد فليس في ذلك ما ينافي الحقيقة التي قلناها .
وأما قولهم : إن الفعل لا يشترط ، فاعلم أنه إن ثبت عدم الفعل الذي يتعلق به القصد من كل وجه ، فلا وجه لجواز الوضوء ، ولا نصر للشافعي فيه .
قالوا : فإذا غسل غيره من وجهه مع قدرته على الغسل ، فأي فعل منه ها هنا ؟ قلنا : بلى ، وهو أن إذنه له أن يوضيه ، فعل منه يجوز أن يتعلق التكليف به والامتحان ، كما قيل في الذي يقول للمسكين ، خذ مالي هذا عن جهة الزكاة ، فإنه يصح ، فإنه حصل به الامتحان والتكليف ، وكذلك ما نحن فيه ، أما إذا هوى من علو وفي مستقر وقوعه ماء ، فلا يتحقق منه القصد الذي يمكن أن يتعلق به امتحان أو تكليف ، فظهر الفرق بينهما .
قوله تعالى : { وُجُوهَكُمْ } : الوجه المعروف في المتعارف ما تواجه به{[1108]} ، وذلك يدل على أنه لا يجب المضمضة والاستنشاق ، لأن الوجه لا يتناوله ، مع أنه ليس مما تواجه ، ولو كان من الأركان الأصلية في الوضوء ، ما كان لائقاً بالشرع أن يذكر الله تعالى أعضاء الوضوء الواجب غسلها ولا يذكرهما ، { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً{[1109]} } .
وفي ما استرسل من اللحية عن الوجه اختلاف قول : فقائل يقول : إنه من الوجه لأنه يُواجه ، والقائل الآخر يقول : نبات الشعر عليه بعد ظهور البشرة ، لا يخرجه عن أن يكون من الوجه ، كما أن شعر الرأس من الرأس ، وقد قال الله تعالى : { وامْسَحُوا برؤوسكم } ، فلو مسح على شعر رأسه من غير بلاغه إلى البشرة ، جاز ذلك ، وكان ماسحاً على الرأس وفاعلاً لمقتضى الآية عند جميع المسلمين ، وكذلك نبات الشعر على الوجه ، لا يخرجه من أن يكون منه .
ومن لا يرى أنه من الوجه يفرق بينه وبين شعر الرأس ، لأن شعر الرأس يولد المرء عليه ، وهو بمنزلة شعر الحاجب ، في كون كل واحد منهما من العضو الذي هو منه ، وشعر اللحية غير موجود معه في حالة الولادة ، وإنما يوجد بعده ، ولذلك لم يُعَدّ من الوجه .
وعلى الجملة ، لفظ الرأس مطلقاً لا يظهر في شعر الرأس الأعلى الذي يظهر لفظ الوجه في شعر الوجه ، والافتراق{[1110]} إنما يرجع إلى معنى آخر ، غير ما يتعلق باللفظ .
قوله تعالى : { وأَيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ{[1111]} } : اعلم أن بعض علمائنا قال : قوله إلى المرافق ، إنما لم يقتضي إخراج المرافق ، ووجب إدخالها في الغسل ، لأن اسم اليد يتناول جميع اليد إلى المنكب ، كما أن الرجل اسم لجميع العضو إلى الأفخاذ ، فقوله إلى المرافق لبيان إسقاط معنى الواجب ، فيما يتناوله اسم اليد ، وهذا يلزم منه وجوب التيمم إلى المنكبين ، لأنه ليس فيه تحديد .
ويجاب عنه بأن الظاهر يقتضي ذلك ، ولذلك تيمم عمار إلى المناكب وقال : تيممنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المناكب ، وكان ذلك لعموم قوله تعالى : { فَامْسَحُوا بِوِجُوهِكُمْ وأَيْدِيِكُمْ مِنْهُ{[1112]} } ، ولم ينكره عليه أحد من أهل اللغة ، وكان عنده أن الاسم للعضو إلى المنكب ، ويلزم من مساق هذا ، أن من غسل يديه إلى الكوع ، ثم قال غسلت يدي ، أن يكون هذا اللفظ مجازاً فيه ، لأنه لم يغسل اليد وإنما غسل بعضه ، وكذلك إذا قال قطعت يد فلان ، ألا يكون حقيقة إذا قطع من الكوع ، كما لا يكون حقيقة إذا قطع الأصابع وحدها ، وأن مثل ذلك بشع شنع .
ويجاب عنه ، بأن اليد والرجل حقيقتهما تمام العضو إلى حيث قلنا : فالمرفق من اليد ، والركبة من الرجل{[1113]} .
وهم يقولون : اليد هي التي يقع البطش بها في الأصل ، وهي التي خلقت للبطش ، وما عداها الآلة الباطشة تتمة لها ، والرجل هي التي أعدت للمشي ، وما عداها من تتمة هذا المقصود ، وهذا مما يختلف القول فيه ، ولا ينتهي إلى حد الوضوح ، والمعتمد فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة وقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به .
ومتى كانت كلمة إلى مترددة بين إبانة الغاية وبين ضم الغاية إليه ، وجب الرجوع فيها إلى بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفعل رسول الله بيان . فإذا أدخل المرفقين والكعبين في الغسل ، ظهر أنه بيان ما أجمله كتاب الله تعالى . وهذا يرد عليه أن هذا إذا ظهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان الواجب ، فأما إذا أتى بالسنة والفرض في وضوئه ، فلا يظهر منه ما ذكره الأولون .
وبالجملة ، القول متقاوم ، والاحتياط للوضوء يقتضي الأخذ بالأتم والحدث يقين ، فلا يزول إلا بيقين . .
قوله تعالى : { وامْسَحُوا برؤوسِكُمْ{[1114]} } ،
ظن ظانون أن الباء في قوله " برؤوسكم " وراء اقتضاءه لإلصاق الفعل بالمحل ، حيث لا يحتاج فيه إلى الإلصاق لحصوله دون الباء ، بخلاف قوله مررت بالجدار ، فإنه لا بد فيه من الباء لتحقيق الإلصاق فإذا لم تكن الباء ها هنا للإلصاق كانت للتبعيض ، وفرقوا بين قول القائل مسحت الجدار ومررت بالجدار ، فإذا قال : مسحت الجدار ، ظهر كونه ماسحاً لكله ، وإذا قيل مررت به لم يفهم منه ذلك . . فقيل له : هذا فرق لا يعرفه أهل اللغة ، والباء زائدة ها هنا . . فأجابوا بأنا إذا جعلناها زائدة ألغينا مقتضاها ، ومتى أمكن إعمالها فلا يلغى مقتضاها . . قيل لهم : إذا كانت ترد زائدة ، فكونها زائدة مقتضاها أو معناها فما ألغيناها من هذه الجهة ، وإذا لم يثبت ذلك ، فالتبعيض إنما يتلقى من لفظ المسح ، فإذا قال قائل : مسحت الجدار ، وكان قد مسح بعضه كان اللفظ حقيقة وتم مقتضاه ، فالرأس وإن كان حقيقة في جميع العضو ولكن رب فعل يضاف إليه ، فلا يفهم من الرأس كمال العضو لمكان الفعل ، مثل فهم الفرق من قول القائل : حلقت رأس فلان ، في أنه يفهم منه استيعاب الحلق جميع الرأس ،
وقوله ضربت رأس فلان في أنه لا يفهم منه استيعابه ، وهذا لا يتجه كما ينبغي إلا أن يضاف إلى العرف ، فيقال في العرف إذا قال القائل : حلقت رأس فلان ، يبعد فهم حلق بعضه ، لأن ذلك الفعل على وجه التبعيض غير متعارف ، ويقول القائل رأيت فلاناً ، وإنما يكون قد رأى وجهه ، ولكن ذلك بعّضه العرف ، ويقول : رأيت مدينة كذا أو سور مدينة كذا ، وإنما قد رأى شيئاً يسيراً من ذلك ، فهذا الفرق منشؤه العرف لا غير .
فبالجملة إذا قال القائل وقد مسح بعض رأسه : مسحت الرأس ، كان ذلك حقيقة ولم يكن مجازاً ، وهذا لا يبعد إثباته ، ويتأيد ذلك بالإجماع على جواز ترك شيء من مسح الرأس . . .
وإذا انعقد الإجماع على جواز ترك شيء منه ، فليس مقدار أولى من مقدار ، فهذا هو القدر اللائق بهذا الكتاب ، وما زاد عليه فهو من مباحث الفقه{[1115]} .
قوله تعالى { وأَرْجُلَكُمْ } فيه قراءتان : النصب والجر ، أما النصب ، فهو من حيث الإجراء على الأصل ، لأن الرجل في موضع النصب ، لأنه وقع الفعل عليه ، والرأس كمثل ، إلا أن الرأس انتصب{[1116]} للباء الجارة ، فبقيت الرجل على الأصل{[1117]} ، ويجوز أن يكون الجر للمجاورة ، وفي كسر الجوار أمثلة من القرآن وأشعار من العرب ، مستقصاة في كتب الفقه والأصول .
واعترض عليه بأن الأليق بكتاب الله تعالى مراعاة المعنى دون النظم وكسر الجوار ، إنما يصير إليه من رام تغليب النظم على المعنى مثل الشعراء ، فأما من رام تغليب المعنى فلا يصير إلى كسر الجوار ، ومتى كان حكم الأرجل في المسح مخالفاً حكم الرأس ، لم يجز الجر بناء على المجاورة في النظم ، مع الاختلاف في المعنى ، وهذا كلام حسن . .
فقيل لهم : بل هما في المعنى متقاربان ، فإنهما يرجعان إلى إمساس العضو الماء . . فقال في الجواب عنه : إن الشرع أراد تفرقة ما بين البابين فقال : فاغسلوا وجوهكم ، ثم قال ، وامسحوا . . . فلو كانا متقاربين في المعنى لم يقصد إلى التفرقة بينهما .
نعم ، ورد في بعض الأشعار : أعلفتها تبناً وماءاً وبارداً . . . . و متقلداً سيفاً ورمحاً . . . . و أطفلت بالجهتين{[1118]} ظباءها ونعامها . . . .
لأن العلم باقترانهما أغنى عن التعرض لوجه الاقتران ، فأطلق اللفظ الواحد عليهما ، وها هنا ما أطلق اللفظ الواحد عليهما ، فإنه لو أطلق لفظ المسح على المغسول ، لأطلق لفظ الغسل على الجميع إطلاقاً واحداً ولم يرجع في الرءوس إلى لفظ المسح ، فإن تقارن ما بين المسح والغسل إن اقتضى إطلاق لفظ واحد عليهما ، فتقارن ما بينهما يقتضى إطلاقه لفظ الغسل على الجميع .
ولئن قيل : ذكر المسح لإبانة حكم آخر لا بد من إبانته ، فليفرد الأرجل ببيان حكمها المختص بها وهو الغسل ، وإذا ثبت ذلك فنقول : نحن وإن سلمنا لهم أن اللفظ ظاهر في المسح ، فاحتمال الغسل قائم والذي يتصل به من القرائن يثبته ، ومن جملة القرائن قوله تعالى : { وامْسَحُوا برُؤوُسِكُمْ وأَرْجُلَكُمْ إلىَ الكَعْبَيْنِ{[1119]} } ، والبلل الذي يخرج من الماء في خف الماسح ، كيف يمتد إلى الكعبين ؟ وكيف يمكنهم ذلك ولا يمكنهم أن يقولوا : إنه لا يجب مد الماء إليه ؟ فإن ثبت خلاف الإجماع ، وصح أنه صلى الله عليه وسلم رأى قوماً تلوح أعقابهم لم يصبها الماء ، فقال : " ويل للأعقاب من النار ، أسبغوا الوضوء{[1120]} " .
وأما الكعبان : فهما العظمتان النّاتئتان بين مفصل الساق والقدم ، وقال محمد بن الحسن : هو مفصل القدم الذي يقع عليه عقد الشراك على ظهر القدم ، وذلك لا يقوى لأن الله تعالى قال : وأرجلكم إلى الكعبين فدل ذلك على أن في كل رجل كعبين ، ولو كان في كل رجل كعب واحد ، لقال إلى الكعب ، كما قال تعالى : { إنْ تَتُوبَا إلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا{[1121]} } ، إنما كان لكل واحد قلب واحد ، وأضافهما إليه بلفظ الجمع ، فما أضافهما إلى الأرجل بلفظ التثنية ، دل على أن في كل رجل كعبين .
واعلم أن ظاهر إضافة الغسل إلى الرجل ، يمنع مسح الخف ، إلا أن مسح الخف ورد في الأخبار ، فلم يكن نسخاً لما في الكتاب بل كان تخصيصاً .
الاعتراض : أن التخصيص إنما يكون في مسميات يُخصّص بعضها ويبقى الباقي على موجب الأصل ، فإذا جوز المسح ، ثم مطلقاً ، فأين وجوب غسْل الرجل ؟ وعندكم أنه يتخير بين المسح والغسل أبداً ، فأين وجوب غسل الرجل على هذا التقدير ، حتى يقال : خرج منه البعض وبقي البعض ؟ الجواب أن معنى التخصيص فيه ظاهر ، فإن غسل الرجل ثابت في حق الأكثر ، والذي يمسح إنما يمسح مدة معلومة ، ثم يرجع إلى الغسل فيغسل ، ولا بد للمسح على الخفين من تقديم الطهارة الكاملة حتى يصح المسح ، فوجوب غسل الرجل حاصل في حق كثير من المسميات ، فصح معنى التخصص ، وهذا بيّن ظاهر . وإذا ثبت ذلك في أصل المسح على الخفين ، والمسح موقوف فيما سوى المدة ، وجب الرجوع إلى الأصل .
ويحتج على من جوز مسح العمامة ، بإيجاب الله تعالى غسل الرجلين ، فإن تخصيصه لا يجوز إلا بدليل . . نعم مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بناصيته وعمامته{[1122]} ، وفي بعض الروايات على جانب عمامته ،
وفي بعضها وضع يده على عمامته ، فأخبر أنه بعد فعل المفروض من مسح الناصية مسح على العمامة ، وذلك جائز عندنا .
إذا ثبت هذا فظاهر قوله تعالى : { فاغْسِلُوا وُجُوهُكُمْ وأيديكم } يقتضي الإجزاء فرق أو جمع ووالى ، على ما هو الصحيح من مذهب الشافعي ، وهو مذهب الأكثرين من العلماء ، فاعتبار الموالاة يقتضي من دليل زائد ، وليس في الأمر ما يقتضي الفور ، وترتيب بعض المأمور على البعض ،
ويستدل بظاهر الآية على أن التسمية ليست شرطاً .
وإذا ثبت أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع فيما يتعلق بالزمان ، فإذا قال القائل : رأيت زيداً وعمراً ، لم يفهم منه أنه رآهما في زمان واحد ، أو في زمانين مرتبين ، وإذا ثبت ذلك ، فالواو أجنبي عن اقتضاء{[1123]} هذا المعنى ، وإنما هو لترتيب الأفعال بعضها على بعض .
فظاهر الآية يقتضي وجوب إمرار الماء على الأعضاء الأربعة ، ولو قال صاحب الشريعة : أمروا الماء عليها على الأعضاء الأربعة : الوجه ، واليدين ، والرأس ، والرجلين ، فإذا أمر الماء عليها على أي وجه كان ، خرج عن مقتضى الأمر وكان ممتثلاً ، وليس يجب على المأمور إلا ما اقتضاه ظاهر الأمر .
إلا أن الشافعي يوجب الترتيب تلقياً من إدراج الممسوح في تضاعيف المغسولات ، وأن ذلك لا يكون إلا عن قصد ترتيب الأشياء على النسق المذكور ، كما قررناه في مسائل الفقه .
فإن قيل : فالأرجل معطوفة في المعنى على الأيدي ، وأن معناها : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم وامسحوا برؤوسكم ، وإنما يمكن رد الرجل إلى اليد على تقدير رفع الترتيب… قلنا : هذه جهالة ، فإن الذي قلتموه ترتيب في المعنى ورد من هذه الجهة ، وإن حصل الترتيب من حيث الزمان ، ولو رتب البعض على البعض بكلمة ، ثم لكان الذي ذكروه ممكناً ، ولا حاصل لما قالوه .
واستنبط أصحاب أبي حنيفة من هذه الآية ، أن الاستنجاء لا يجب لأن الله تعالى لما قال : { إذَا قُمْتُمْ إلىَ الصَّلاةِ } ، كان الحدث مضمراً فيه ، وتقديره : إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون ، وقال في نسق الآية : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ{[1124]} } فلم يوجب عليه أكثر من المذكور ، وذلك يدل على أنه إذا أتى بالمذكور استباح الصلاة ، أو قال : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ } ، وهو كناية عن الخارج النجس ، ولم يقل اغسلوا موضع الخارج ، وإنما قال فاغسلوا وجوهكم .
فيقال لهم : إن الذي ذكرتم ليس يدل على ما استنبطتموه ، وذلك أن المراد منه بيان غسل ما لا يظهر أثر الخارج في غسله ، وهو أعضاء الوضوء ، فأما إزالة النجاسات عن البدن والثوب وغيرهما من المواضع النجسة ، فحكمها مأخوذ من موضع آخر ، وليس يقتضي بيان حكم الوضوء بيان حكم شرائط الصلاة كلها ، فإن الصلاة موقوفة إجماعاً على ستر العورة ، ولا ذكر له في هذه الآية ، وموقوفة على طهارة البدن والثوب مما فوق النجاسة التي يعفي عنها على مذهبكم ، ولم يكن السكوت عنه مانعاً عدم{[1125]} اشتراط السكوت عنه في إجزاء الفعل ، فاعلمه . .
قوله تعالى : { وإنْ كُنتُمْ جُنُبَاً فاطّهّرُوا{[1126]} } : إنما سمى جنباً لأجل ما لزمه من اجتناب أفعال بينها الشرع ، فالجنابة هي البعد والاجتناب ، ومنه قوله تعالى : { والجَارِ الجُنُبِ{[1127]} } ، يعني البعيد منه نسباً ، فصارت الجنابة في الشرع اسما للزوم اجتناب ما وصفناه من الأمور . وأصله التباعد عن الشيء ، ثم ليس بتباعد عن كل شيء ، وإنما هو تباعد من شيء دون شيء ، مثل الصوم : في الأصل عبارة عن الإمساك وليس الصوم في الشرع إمساكاً عن كل شيء ، إنما هو عن شيء دون شيء ، وبيان ذلك إلى الشرع ، ومطلق اللفظ ينصرف إلى ما استقر عُرف الشرع عليه .
واستنبط من أوجب المضمضة والاستنشاق من قوله تعالى : { وإنْ كُنْتُمْ جُنُباً فاطّهّرُوا } ، أنهما فرضان عليه ، لأن قوله : { اطّهّرُوا } عموم ، وقرر الرازي هذا في أحكام القرآن ، ثم وجه على نفسه سؤالاً فقال : إن قال قائل : من اغتسل ولم يتمضمض ولم يستنشق يُسمّى متطهراً ، فقد فعل ما أوجبته الآية ؟ فقال : إنما يكون مُطّهَراً لبعض جسده ، وعموم الآية يقتضي تطهير الجميع ، فلا يكون بتطهير البعض فاعلاً لموجب عموم اللفظ .
ألا ترى أن قوله تعالى : { فاقْتُلوا المُشْرِكينَ{[1128]} } ، عموم في سائرهم ، وإن كان الاسم يتناول ثلاثة منهم ؟ فكذلك ما وصفناه ولما لم يجز لأحد أن يقتصر من حكم آية قتال المشركين على ثلاثة منهم ، لأن الاسم يتناولهم ، إذ كان العموم شاملاً للجميع ، فكذلك قوله : { فاطّهّرُوا } عموم في سائر البدن ، فلا يجوز الاقتصار على بعضه{[1129]} ، فهذا ما ذكره سؤالاً واستدلالاً وانفصالاً . .
والذي ذكره باطل عندنا قطعاً ، فإن صيغ جموع الكثرة حقيقة في الاستغراق ، فهي فيما دونه مجاز ، لأن الوضع الأصلي فيها الاستغراق ،
فأما قوله : تطهر فلان ، فليس حقيقة في قدر دون قدر ، فإذا غسل أي موضع غسل من بدنه ، فقد تطهر ، ولم يذكر الله تعالى موضع الطهارة أصلاً ، لا بلفظ يقتضي عموم البدن ، ولا بلفظ يخالفه ، وإنما قال فاطهروا ، وليس فيه ما يوجب عموماً أو خصوصاً ، ولكنه لإبانة ما يسمى اطهاراً ، ولا يمكنه أن يقول : من غسل بدنه جميعه إلا داخل الفم والأنف ، فلا يقال له اطهر حقيقة ، وما جاء به ليس باطهار حقيقة بل لفظ الاطهار في هذا القدر مجاز ، كما أن الاستغراق فيما دونه مجاز وذلك يتبينه العاقل بأوائل النظر في مثل ذلك .
قال : إن المأمور خرج من موجب الأمر بما يسمى به متطهراً ، وقال تعالى في موضع آخر : { وَلاَ جُنُباً إلاَّ عَابِري سَبيِل حَتّى تَغْتَسِلُوا{[1130]} } ، يقتضي جوازها مع تركها{[1131]} ، لوقوع اسم المغتسل عليه ، واسم المغتسل حقيقة في حق من لم يتمضمض ، واسم المتطهر حقيقة في حق من لم يتمضمض فلا حاصل لقوله هذا ، فاعلمه وثق به .
قوله تعالى : { وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ عَلَى سَفَرٍ } : فهم العلماء من قوله مرضى ، كون المرض مبيحاً للتيمم إذا كان في استعمال الماء ضرر ، لأنه لو لم يحمل على ذلك ، كان ذكر المرض لغواً عند عدم الماء ، ولم يفهموا من ذكر المسافر اعتبار السفر فقط ، بل اعتبروا عدم الماء ، وإن كان عدم في حق غير المسافر يبيح التيمم ، لأن السفر يغلب فيه عدم الماء ، ويندر في الإقامة مثل ذلك ، فكان للسفر تعلق بعدم الماء ، وليس للمرض تعلق به ، فلم يفهم منه عدم الماء ، وإنما فهم منه ما يفضي إليه المرض من الضرر باستعمال الماء .
وإذا ثبت هذا ، فقد قال تعالى : { وإنْ كُنتُمْ مَرْضَى أوْ عَلَى سَفَرٍ } الآية :
ذكر المرض والسفر مع الأحداث ذكراً واحداً وليسا حدثين ، فلا جرم اختلف العلماء في معنى الآية : فأما زيد بن أسلم فإنه ذكر في الآية تقديماً وتأخيراً فقال : تقديره : إذا قمتم إلى الصلاة من نوم ، أو جاء أحد منكم من الغائط{[1132]} أو لمستم النساء ، فاغسلوا وجوهكم - إلى قوله - وإن كنتم جنباً فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر ولم تجدوا ماء .
والذي يَرِد على هذا من الاعتراض على مقتضى هذا القول : فيكون ذاكراً بعض أسباب الحدث ، من غير أن يذكر الحدث مطلقاً ، ويكون ذاكراً للجنابة المطلقة من غير ذكر أسبابها وموجباتها ، فإن غير زيد بن أسلم يقول : تقدير الآية : " إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون مطلقاً " ، لينتظم مع قوله : { وإنْ كُنْتُمْ جُنُباً فاطّهّرُوا } ، فإنه إذا ذكر أسباب الحدث عند وجود الماء ، فيشبه أن يذكر أسباب الجنابة ، وإن ذكر الحدث مطلقاً ، ذكر الجنب مطلقاً ، ففيما ذكره زيد بن أسلم قطع الانتظام من هذا الوجه ، مع أنه لم يبين{[1133]} تمام الأحداث ، فإنه لم يذكر النوم وهو حدث ، ولا زوال العقل بأي سبب كان ، ولامس الذكر عند قوم ، ولا خروج الخارج من غير السبيلين عند قوم ، فهذا يرد على تقدير التقديم والتأخير ، مع أن تقدير التقديم والتأخير يورث ركاكة في النظم ، واستكراهاً في النطق ، وحيداً عن أحسن الجهات في البيان ، وإنما يجوز لضرورة تدعوه إليه .
وعند ذلك قال آخرون : الداعي إلى التقديم والتأخير ، أنه عد المرض والسفر معد الأحداث ، ونحن نقدر تقديراً آخر ليزول ذلك فنقول :
{ إذَا قُمتُمْ إلىَ الصَّلاَةِ فاغسِلُوا } : معناه وأنتم محدثون ، وإن كنتم جنباً فاطهروا ، فقد بين السببين الأصليين للطهارتين الصغرى والكبرى ، ثم قال : { وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ عَلَى سَفَرِ أوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ } معناه : وجاء ، وقد ورد " أو " بمعنى الواو ، وذلك راجع إلى المرض والسفر إذا كانا محدثين ولزمهما ، وجعل " أو " بمعنى الواو في كتاب الله تعالى ، وفي أشعار العرب موجود .
إلا أن الذي يرد عليه أنا إذا قلنا إن معنى أول الآية : " إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون " ، ثم قال : { وإنْ كُنْتُمْ جُنُباً فاطّهّرُوا } فقوله : { وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ عَلَى سَفَرٍ } ، يظهر رجوعه إليهما ولا معنى لذكر المجيء من الغائط ولمس النساء ، فإنَّ الحدث المطلق ، الجنابة المطلقة تشملهما ، وما سواهما فليس لذكرهما فائدة ، ففي كل واحد من التقريرين{[1134]} نوع اعتراض وبعُد ، والله أعلم بمراده من الآية .
قوله : { أَوْ لاَمَستُمُ النِّسَاءَ } : حمله قوم على الجماع ، وقوم على الجس باليد .
فأما قراءة اللمس فظاهرة في الجس والملامسة ، من حيث إنها على صيغة المفاعلة ، ويقال استعمالها في الجس باليد ، تَوهم قوم أنها بمعنى الجماع ، وكيف ما قدر أمكن أن يعمل بالقرائن ، وتجعل القرائن كالاثنين فيعمل بهما جمعاً ، أو يجعل اللمس محمولاً على الجس باليد وعلى الجماع أيضاً ، لأنه يتضمن ذلك غالباً ، وقد بسطنا القول في هذا فيما تقدَّم فلا نعيده{[1135]} .
قوله تعالى : { فَلَمْ تَجِدوا ماءً ، فَتَيَمّموا صَعِيداً طَيِّباً{[1136]} } : اعلم أن الله تعالى ذكر المرضى فقال : { وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ } ثم قال : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } ، فلا بد أن يرجع الشرط إلى ما تقدم ذكره ، وعدم الماء ليس معتبراً حقيقة في حق المريض ، فيدل معنى الآية على أن الله تعالى ، إنما عنى بالموجود ، إمكان استعمال الماء وإن كان واجداً للماء صورة ، ولكنه معجوز عنه ، فكأنه لم يجده ، فإنا لو لم نقدر ذلك ، لم يستقم جعل قوله { فلم تجدوا } عائداً إلى المرضى وذلك خلاف الإجماع والنظم .
وإذا كان معنى الوجود إمكان الاستعمال شرعاً وطبعاً ، ولو كان الماء عنده{[1137]} وديعة ، فليس واجداً للماء شرعاً ، وإن كان في استعماله التلف فليس واجداً للماء شرعاً .
وإذا ثبت ذلك فقوله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } : إذن أريد به وجوداً لا يتضمن ضرراً ظاهراً ، وإذا بيع بثمن أكثر من ثمن المثل لم يجب عليه سداده .
واختلف قول الشافعي في من وجد من الماء ما لا يكفي لتمام طهارته : ففي قول : يتيمم ، وهو قول أكثر العلماء ، لأن الله تعالى جعل فرضه الشيئين : إما الماء وإما التراب ، فإذا لم يكن الماء مغنياً عن التيمم كان غير موجود شرعاً . وعلى القول الآخر يقول : إن الله تعالى ذكر الماء ، فاقتضى ذلك أن لا يجد ما يقع عليه اسم الماء جملة ، وإذا وجد من الماء ، ما لا يكفيه ، فقد وجد الماء ، فلم يتحقق شرط التيمم ، فإذا استعمله وفقد الماء ، تيمم لما لم يجد .
واختلف قول الشافعي فيما إذا نسي الماء في رحله ثم تيمم ، والصحيح أنه يعيد ، لأنه إذا كان الماء عنده فهو واجد ، لكنه لا يدري أنه واجد ، وأن الشيء عنده ، والكلام في علم الله تعالى ، فإذا كان عند إنسان شيء فذلك الشيء هو موجود عنده ، وإذا كان موجوداً فهو واجد للموجود إذ يستحيل أن يكون موجوداً عنده وليس بواجد له ، إلا أنه نس أنه واجد له .
والقائل الآخر يقول : إذا لم يعلمه فلم يجده ، وقد يقول : كان عندي ولم أجده ، وقد يكون الشيء في دار رجل فيطلبه فيقال له : هل وجدته أم لا ؟ فيقول وجدته أو ما وجدته ، فإذا نسيه في رحله فلم يجده .
فيقال : هذا إنما يستقيم أن لو طلبه فلم يجده ، وعندنا لو طلب فلم يجد كان مقدوراً ، إلا أنه لا يجوز أن يكون في الرحل ، فيطلب من الرحل فلا يجده ، والطلب من الرحل شرط ، حتى يقال لمن طلب ولم يجد إنه لم يجد ، والشافعي أوجب طلب الماء ، لأنه لا يقال لم أجد ، إلا إذا طلب ، وإذا لم يطلب في مظنة الماء ، فلا يحسن أن يقال : لم أجد .
نعم يجوز أن يقال وجد فلان لقطة ، وإن لم يكن طلبها ، إنما لا يقال لم يجد ، إلا إذا طلب فلم يجد .
وهذا يعترض عليه أن الواحد منا قد يقول : أنا لا أجد ما أتوصل به إلى كذا ، أو لم أجد أمر فلان مستقيماً ، والله تعالى يقول : { وَمَا وَجَدْنَا لأكثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وإنْ وَجَدْنَا أَكثَرَهُمْ لَفاسِقِين{[1138]} } .
وإذا كان لفظ الوجود لا يقتضي الطلب في قوله تعالى : { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً{[1139]} } ، { فَهَلْ وَجَدْتُم مَا وَعَدَ رَبّكُم حَقّاً{[1140]} } لا أنهم طلبوا ، ولا أنه يمكن الطلب في قوله تعالى : { وَمَا وَجَدْنَا لأكثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ } ، لأن الله تعالى لا يجوز أن يوصف بالطلب . وإن كان قد يجاب عن كل ذلك بأن الله تعالى طلب منهم الثبات على العهد ، والطلب من الله تعالى هو الأمر به ، فيصح إطلاق قوله : { وَمَا وَجَدْنَا } ، لأنه يطلب منهم ما قدمه إليهم من العهد . وإذا قال القائل : فلان لا يجد ألفا دينار ، فمعناه أنه لا يتسع طلبه له ، وإن تمحل وطلب . . .
وعلى الجملة لو قطعنا بأن لا ماء ، فلا يجب عليه الطلب حتى يظهر عدم الماء في المصادر{[1141]} ، ولو ظهر وجوده لوجب عليه الطلب ، حتى يجب عليه الطلب من الرفقة وفي مواضع إمارة الماء . وربما نسلم لهم إذا غلب الظن بعدم الماء ، وهم يسلمون لنا إذا لم يبعد وجود الماء ، فيرتفع الخلاف{[1142]} .
وفي أصحابنا من يقول : إذا لم يتيقن عدم الماء لم يصح التيمم ، لأن عدم الماء شرط ، والشرط لا بد من تيقنه . وهذا بعيد ، فإنه وإن طلب وبالغ ، فلا يحصل التيقن من{[1143]} من عدم الماء ، وإنما يحصل الظن الغالب ، فأما اليقين فغير مظفور به ، وفي الوقت أمكن انتظار اليقين ، فافترقا لذلك .
وإذا خاف في الاستعمال بالوضوء فوات الوقت ، لم يتيمم عند أكثر العلماء ، ومالك يجوز التيمم في مثل ذلك .
وللشافعي مسائل تدل على ما يقارب مذهب مالك ، واستقصيناها في المذهب .
والذي لا يجوز يتعلق بقوله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءاً فَتَيَمّمُوا } ، وهذا واجد ، فقد عدم شرط صحة التيمم فلا يتيمم . والقائل الآخر يقول : ما جاز التيمم في الأصل إلا لحفظ وقت الصلاة ، ولولا ذلك لوجب تأخير الصلاة إلى حين وجود الماء .
فيقال : ولكن يمكن أن يقال : إلا أن السفر يكثر وإعواز الماء فيه يغلب ، فلو جاز تأخير الصلاة إلى حين وجود الماء ، تكاسل الناس عن إعادة الصلاة ، فأوجبت الصلاة بالتيمم تمريناً عليه . وهذا لا يتحقق فيما إذا كان فوت الصلاة نادراً في حالة خاصة فاعلمه .
فإن قيل : جازت صلاة الخائف لأجل الوقت مع ندور الخوف . . ويجاب عنه بأن هناك وجد شرط صحة الصلاة وهو الخوف ، وهاهنا عدم الشرط وهو العدم .
وقد قيل في حق المسافر والخائف ما أبيح التيمم ، لئلا يفوت الوقت ، ولذلك جاز في أول الوقت . . فيقال : جوازه في أول الوقت لا ينافي ما قلناه ، فإنه لو لم يجز في أول الوقت لم يجز في وسط الوقت ، حتى ينتهي إلى قدر ينطبق على فعل الصلاة ، وذلك عسر غير مضبوط ، فلم يمكن اعتباره .
واعلم أن هذا الكلام لا يستقيم لأبي حنيفة من وجهين : أحدهما : أنه يجوز التيمم لخوف فوات صلاة الجنازة مع عدم الشرط ، وقد قال تعالى : { فَلَم تَجِدُوا مَاءاً } وهو واجد . والثاني : أنه جوز التيمم قبل الوقت من غير ضرورة ، وذلك يدل على أنه لا تعتبر الحاجة . واختلف في من حبس في حبس{[1144]} ، لا يقدر على ماء ولا تراب نظيف ، فالشافعي يقول : يصلي ويعيد .
وأبو حنيفة وزفر ومحمد يقولون : لا يصلي أصلاً حتى يقدر على الماء ،
وإذا ثبت هذا ، فقد جعل الله تعالى التيمم شرط صحة الصلاة أو الوضوء ، فإذا لم يقدر عليهما ، فربما يقول القائل : إذا لم يتحقق شرط الشيء لم يثبت المشروط دونه ، ولم يتحقق الشرط في حق من عدم الماء والتراب ، فلا جرم ، قال أبو حنيفة : لا يصلي لعدم شرط العبادة .
وقال المزني : يصلي لأن الشرط إنما أريد في هذا الموضع لتكملة المشروط ولحسن نظامه ، لا لأنه شرط لعينه ، ومتى كان كذلك ، لم تزد رتبته على رتبة الأركان ، والعجز عن بعض الأركان لا يسقط القدر المقدور عليه ، وكذلك هاهنا ، فعلى هذا يصلي ولا يعيد .
والشافعي يقول : أما الذي ذكره المزني من أنه يصلي فصح ، ولكنه يصلي مراعاة لحق الوقت مع العجز عن كماله ، فإذا قدر على الكمال وجب الإتيان به . وهذا القياس كان يقتضي مثله في ترك بعض الأركان في حق المريض ، أو ترك الوضوء في حق المسافر ، إلا أن تلك الأعذار عامة ، ويكثر وقوعها ، فتكليف القضاء يجر حرجاً . وقد استقصينا ذلك في مسائل الخلاف .
وقد احتج المزني بما روى في قلادة عائشة رضي الله عنها حين ضلت ، وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين ندبهم لطلب القلادة ، صلوا بلا وضوء ولا تيمم{[1145]} .
والتيمم إذا لم يكن مشروعاً فقد صلوا بلا طهارة أصلاً ، ومنه قال المزني لا إعادة ، وهو نص في جواز الصلاة مع عدم الطهارة مطلقاً عند تعذر الوصول إليها .
فإن قيل : جواز الصلاة كان لعدم الماء ، من حيث لا بدل له كالتراب الذي لا بدل له الآن .
واختلف العلماء في جواز التيمم قبل وقت الصلاة ، والشافعي لا يجوزه ، فإنه لما قيل لنا : " فإن لم تجدوا ماء فتيمموا " ظهر منه إجزاء التيمم بالحاجة ، ولا حاجة قبل الوقت ، وعلى هذا لا يصلي فرضين بتيمم واحد ، والمسألتان استقصيناهما في علم الخلاف ، وأصلهما كتاب الله تعالى ، وهو تقييد التيمم بوقت الحاجة والضرورة وهذا بين .
ولما قال الله سبحانه وتعالى : { إذَا قُمتُم إلَى الصَّلاَةِ فاغسِلُوا } ، جعل وجوب الطهارة للقيام إلى الصلاة ، وتقديره إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون ، فإذا شرع في الصلاة بالتيمم وصح الشروع ثم وجد الماء ، فليس هو قائماً إلى الصلاة ، فلا يتناوله الأمر بالطهارة .
وتتمة القول فيه ، أنه قد صح منه أداء ما شرع فيه ، ومتى صح منه أداء ما شرع فيه ، فلا يمكن أن يقال إنه كان التيمم شرطاً لبعض الصلاة ، فإن كون التيمم القول شرطاً لبعض الصلاة لا يتحقق معناه ، مع أن المشروط لا بعض له ، فلا بد أن يجعل شرطاً للجميع ضرورة تصحيح البعض ، فإذا حكمنا بصحة البعض على تقدير أن التيمم لا بعض له ، اقتضى ذلك كون التيمم شرطاً لصحة جميع الصلاة ، وخروج الوضوء عن كونه شرطاً ، في حالة كون التيمم شرطاً .
ولا يجوز أن يقال إن كون التيمم شرطاً موقوف ، فإنه لو كان كذلك كانت صحة الصلاة موقوفة ، هي صحيحة قطعاً بلا وقف .
وإن هم قالوا : إذا وقع في علم الله تعالى أن يجد الماء في خلال الصلاة ، لم تكن الصلاة صحيحة من الأول ، فهذا باطل ، فإن حكم الله تعالى مبني على وجود سببه ، وعلى توافر شرائطه ، وقد توافرت شرائط الصحة في أول الصلاة ، فلا يمكن الحكم بعدم الصحة .
فإن قيل : فإذا تخرق الخف أو انقضت مدة المسح ، أليس تبطل الصلاة ، مع أن القدر الذي وقع الشروع فيه كان صحيحاً ؟ والجواب : أن ذلك سببه أن الحكم بالصحة على تقدير توافر الشرائط ، وجعلنا التيمم شرطاً لصحة جملة الصلاة ، ولأنه لا يمكن جعله شرطاً لصحة البعض ، وليس في حق الماسح شيء يمكن أن يقال إنه جعل شرطاً للصلاة بدلاً عما فات ، فإن الخف لا بدل له ، والخف شرط لجميع الصلاة ، فإذا لم يكن لم تصح ، وهاهنا التيمم هو الشرط وقد وجد ، فهذا تمام ما أردنا بيانه من ذلك .
وأبعد بعض المصنفين في أحكام القرآن فقال : كما قال تعالى : { فَلَم تَجِدُُوا ماءاً فَتَيَمّمُوا } ، فإنما أباح التيمم عند عدم كل جزء من ماء ، لأنه لفظ منكر يتناول كل جزء منه ، سواء كان مخالطاً لغيره أو منفرداً بنفسه ، ولا يمنع أحد أن يقول في نبيذ التمر ماء ، فلما كان كذلك لم يجز التيمم مع وجوده بالظاهر .
وهذا جهالة مفرطة ، فإن إطلاق اسم الماء لا ينصرف إلى النبيذ ، ولا حاجة فيه إلى إطناب ، وتقدير اشتمال اسم الماء عليه ، كتقدير اشتماله على كل مرقة ونبيذ في الدنيا ، وذلك جهل ، ولو كان كذلك لدخل تحت مطلق اسم الماء ، ولو دخل تحت مطلق اسم الماء ، لم يترتب ماء على ماء ، وقد قلتم لا يتوضأ بالنبيذ مع وجود الماء ، فهذا ما أردنا بيانه من هذا المعنى .
ووجب التيمم إلى المرفقين مثل الوضوء ، لأن اسم اليد شامل للعضو إلى المنكب ، إلا ما خصه الدليل ، وقد بينا وجه الكلام عليه{[1146]} .
قوله تعالى : { فَتَيَمّمُوا صَعِيداً طيباً{[1147]} } : يقتضي اختلاف الفقهاء فيما يتيمم به . فقال الشافعي : لا يجوز إلا بالتراب الطاهر ، أو الرمل الذي يخالطه التراب . وأبو يوسف يضم إليه الرمل الذي لا تراب فيه . وأبو حنيفة يجوز بالنورة والزرنيخ . وقال مالك : يتيمم بالحصا والحبل ، وإن تيمم بالثلج ولم يصل إلى أرض أجزأه ، وكذلك الحشيش إذا كان ممتداً .
واشترط الشافعي أن يعلق التراب باليد فيتيمم به نقلاً إلى أعضاء التيمم ، كالماء ينقل إلى الأعضاء ، أي أعضاء الوضوء ، ولا شك أن لفظ الصعيد ليس نصاً فيما قاله الشافعي ، إلا أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" جعلت لي الأرض مسجداً وترابُها طهوراً{[1148]} " ، يبين ذلك .
واستنبط الرازي من قوله : { فامسَحُوا بوجُوهِكُم وأيدِيكُم مِنهُ } أن الباء لما كانت للتبعيض ، وجب بحكم الظاهر جواز مسح بعض الوجه ، مثل ما فهم من قوله { وَامسَحُوا برؤُوسِكُم } .
والذي ذكره ليس بصحيح على ما تقدم ، فإن الباء لا تدل على شيء مما ذكره ، وقد قال تعالى : { وليَطَوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِِ{[1149]} } ، ولو طاف ببعض البيت لم يجز{[1150]} .
قوله تعالى : { ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجعَلَ عَلَيْكُم مِنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُريدُ لِيُطَهِّرَكُم{[1151]} } :
هذا يحتمل أن يكون معناه : إنا لم نرد تكليفكم لنشق عليكم ، وإنما أردنا بتكليفكم اللطف بكم في محو سيئاتكم وتطهيركم من ذنوبكم ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " إذا توضأ العبد فغسل وجهه خرجت خطاياه وذنوبه من وجهه ، وإذا غسل يديه خرجت ذنوبه من يديه " إلى آخره{[1152]} وقوله تعالى : { إنّمَا يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً{[1153]} } ، إنما أراد به التطهير من الذنوب ، ويحتمل التطهير من الأحداث والجنابة .
فكأنه قال : هذه الأفعال ليست واجبة لذواتها ، وإنما هي لمقصود ، وهو حصول الطهارة عن الأحداث بها فهو المقصود والمغزى .
وهذا يضعف من وجه ، فإن الطهارة من الجنابة ليست غرضاً للخلق ، حتى يقال ما أردنا تضعيف الأمر عليكم ، إنما أردنا كذا ، فليست الجنابة نجاسة منكرة في الطبع ، وإنما الله سبحانه وتعالى قال : طهروا أنفسكم ، فسمى الوضوء طهارة ، وإنما صار طهارة بالشرع ، فقوله : { مَا يُريدُ اللهُ لِيَجْعَل عَلَيْكُم مِنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُريدُ لِيُطَهِّرَكُم } يجب أن يفيد مقصوداً للعبد ، ليكون يحصل بذلك المقصود نفي الحرج ، وجعل الحدث نجاسة واجباً إزالتها ، ليس بنفي الحرج ولا يحقق للعبد مقصوداً ، فدل على أن المراد به كون الوضوء مشروعاً عبادة لدحض الآثام ، وذلك يقتضي افتقاره إلى النية ، لأنه شرع لمحو الإثم ورفع الدرجات عند الله تعالى ، وقد قيل : قوله " ليطهركم " أي ليحقق نظافتكم عاجلاً ، وهذا فيه بعد ، فإنه ذكر ذلك عقب التيمم ، وهو لا يحقق هذا المعنى ، إذ ليست النظافة في الوضوء{[1154]} ظاهرة للخلق ظهوراً يقال إن الشرع أمر بها لأجل ذلك .