{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ ( 1 ) مُكَلِّبِينَ ( 2 ) تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( 4 )} ( 4 ) .
( 1 ) الجوارح: تطلق على الحيوانات والطيور الجارحة أي ذوات الأنياب والمخالب .ويدخل في نطاق الكلمة: الكلاب والذئاب والنمور والسباع والفهود والضباع والصقور والنسور والبزاة .والراجح أن الكلمة هنا للإشارة إلى الجوارح التي تستعمل في الصيد كالكلاب والصقور والبزاة .
( 2 ) مكلبين: من التكليب ،وهو تعليم الكلاب للصيد في الأصل ويستعمل في تعليم الجوارح للصيد عموما .وفي اللغة ( كلاب ) مؤدب الكلاب والجوارح .
تعليق على الآية
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} وما فيها من أحكام وتلقين
في الآية حكاية لسؤال وجوابه .والجواب ينطوي على تعميم وتخصيص .فقد حكت أن أناسا سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عما أحل لهم .وأمرت بتبليغ السائلين وبالتبعية جميع المسلمين بأن الله قد أحل لهم كل طيب بصورة عامة .وبأنه قد أحل لهم أكل الصيد الذي تمسكه الجوارح المعلمة على أن يذكر اسم الله عليه .مع التنبيه إلى وجوب تقوى الله والتيقن من سرعة حسابه على أعمالهم تنبيها ينطوي على الإنذار أو التحذير من مخالفة أوامر الله .
ولقد تعددت الأقوال في صرف جملة{واذكروا اسم الله عليه} ( 1 ){[743]}فقيل: إنها بمعنى اذكروا اسم الله حينما ترسلون الجوارح المعلمة لإمساك الصيد حتى إذا أتت بها ميتة جاز لكم أكلها .وقيل: إنها بمعنى اذكروا اسم الله حينما تأكلونه .وقيل: إنها بمعنى اذكروا اسم الله عليه حينما تذبحونه بعد إمساكه .وأوجه الأقوال هو الأول ؛لأن حكم ما يموت بنهش السبع – والجوارح من السباع – قد تقدم ،ولأنه إذا لم يمت المنهوش وذكي حل أكله إطلاقا ،فلا يكون هناك حاجة إلى رخصة جديدة .
ولقد روى المفسرون عدة روايات في مناسبة نزول الآية .منها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقتل الكلاب ،فجاءه بعض المسلمين يسألونه عما يحل لهم اقتناؤه منها .ومنها أن بعض مسلمي البادية سألوه عن حكم ما تصيده جوارحهم المعلمة .وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح .
والآية صريحة بأنها نزلت جوابا على سؤال .ومن المحتمل أن تكون إحدى الروايتين أو كلتاهما صحيحة .كما أن من المحتمل أن يكون السؤال وقع بمناسبة ما احتوته الآية السابقة من بيان حل الحالات المحرمة ،أولا وما يموت من نهش السباع التي منها الجوارح ثانيا .ونحن نرجح هذا الاحتمال كمناسبة مباشرة للآية ؛لأنه متسق مع محتوياتها ومع سياقها .ومن المحتمل أن يكون السؤال قد وقع عقب نزول الآية السابقة فوضعت الآية بعدها للمناسبة الظرفية والموضوعية ،وإلا فتكون قد وضعت في مكانها للمناسبة الموضوعية .
ولقد أورد المفسرون أحاديث نبوية عديدة على هامش هذه الآية كانت مستندا لما وضعه الفقهاء من قواعد وأحكام في موضوع الصيد وأكله .ومن هذه الأحاديث ما ورد في الكتب الخمسة .منها حديث رواه الخمسة عن عدي بن حاتم جاء فيه: ( قلت: يا رسول الله إني أرسل الكلاب المعلمة فيمسكن علي ،وأذكر اسم الله عليه .فقال: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل وإن قتلن ،ما لم يشركها كلب ليس معها .قلت: فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب فقال: إذا رميت بالمعراض فخزق فكله ،وإن أصابه بعرضه فلا ) ( 1 ){[744]}وللبخاري والترمذي: ( إن رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل ،وإن وقع في الماء فلا تأكل ) ( 2 ){[745]}وللبخاري وأبي داود: ( يرمي الصيد فيقتفي أثره اليومين والثلاثة ،ثم يجده ميتا وفيه سهمه قال: يأكل إن شاء الله ) ( 3 ){[746]}ولمسلم وأبي داود في الذي يدرك صيده بعد ثلاث (..........فكله ما لم ينتن ) ( 4 ){[747]}وروى الترمذي عن عدي قال: ( سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن صيد البازي قال: ما أمسك عليك فكل ) ( 5 ){[748]} .
ولقد أورد ابن كثير حديث عدي بن حاتم معزوا إلى الصحيحين ،وفيه مباينة وزيادة لما ورد في التاج ،فرأينا من المفيد نقله ؛لأن ابن كثير من أئمة الحديث: ( قال عدي بن حاتم: قلت يا رسول الله إني أرسل الكلاب المعلمة وأذكر اسم الله فقال: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك ،قلت: وإن قتلن .قال: وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس منها ،فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره .قلت له: فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب ؟.فقال: إذا رميت بالمعراض فخزق فكله ،وإن أصابه بعرض فإنه وقيذ فلا تأكله .وفي لفظ لهما إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله ،فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه ،وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ الكلب ذكاته .وفي رواية لهما: فإن أكل فلا تأكل ،فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه ) وقد عقب ابن كثير قائلا: فهذا دليل الجمهور وهو الصحيح من مذهب الشافعي .وهو أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقا ولم يستفصلوا كما ورد بذلك الحديث .ثم قال: وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا: لا يحرم مطلقا .ثم أخذ يسوق أحاديث في تأييد جواز أكلها وفي بعض مسائل أخرى لم ترد في الكتب الخمسة ،ولكنه نبه على أنها جيدة الأسناد .وأورد بعضها البغوي أيضا ونبه التنبيه نفسه ،والمفسران من أئمة الحديث .
ومن هذه الأحاديث حديث عن سلمان الفارسي قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه فليأكل ما بقي ) وحديث عن أبي ثعلبة الخشني قال: ( قلت يا رسول الله إن لي كلابا مكلبة فأفتني في صيدها .فقال: كل ما أمسكن عليك .فقال: ذكياً وغير ذكي وإن أكل منه .قال: نعم وإن أكل منه .قلت: يا رسول الله أفتني في قوسي .قال: كل ما ردت عليك قوسك .قال: ذكيا وغير ذكي قال: نعم وإن تغيب عنك ما لم يصلّ – أي ينتن – أو تجد فيه أثر غير سهمك .قال: أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها ،قال: اغسلها وكل فيها ) .وهناك صيغ أخرى لحديث أبي ثعلبة جاء في إحداها: ( إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل ،وإن أكل منه وكل ما ردت عليك يدك ) ،وفي إحداها: ( قلت: يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس هو معلم وبكلبي المعلم فما يصلح لي .قال: أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب ،فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها ،وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها .وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل .وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل .وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل ) وهناك أقوال أخرى مروية عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم تدور في النطاق الذي دارت فيه الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم نر ضرورة إلى إيرادها ؛لأن فيها تكرارا لا فائدة منه .
والأحاديث التي ساقها ابن كثير والبغوي في حل الصيد الذي يأكل منه الجارح أو الكلب لم تحل الخلاف بين الفقهاء .
حيث ظل بعضهم يذهب إلى التحريم مطلقا ،وبعضهم إلى الحل مطلقا .وقد توسط بعضهم فقال: بالحل في حالة الجوع .والأحاديث التي تحرم أكل ما أكل منه الكلب أقوى سندا كما هو ظاهر .والقول بحله في حالة الجوع وجيه ومتسق مع المبدأ العام الذي يحل أكل المحرم في حالة الاضطرار والمخمصة .والله تعالى أعلم .
هذا ،ومع أن تعبير{قل أحل لكم الطيبات} قد يكون في مقامه قاصرا على الأنعام والطيور التي يسوغ أكلها ،فإن فيه معنى الجواب المبادر القوي العام والشامل لكل طيب .وهذا متسق مع التلقين القرآني المنطوي في آيات عديدة مكية ومدنية ( 1 ){[749]}من توخي الشريعة الإسلامية – قرآنا وسنة – تحليل الطيبات جميعها .والطيبات كما هو المتبادر هي كل ما لم ينص الشارع على تحريمه .وهي من هذا الاعتبار واسعة النطاق جدا ؛لأن ما نص الشارع من قرآن وسنة على تحريمه محدود جدا .وهكذا ينطوي في العبارة القرآنية ما انطوى في كثير من الآيات من تيسير التشريع القرآني للمسلمين .ويلمس في كلمة الطيبات معنى تصوري رفيع في صدد تهذيب نفس المسلم وذوقه .وتنزيههما عن كل مستكره في المأكل والمشرب وسائر شؤون الحياة .وفي هذا الذي تكرر في القرآن بأساليب متنوعة ومواضيع عديدة ما فيه من روعة وجلال .
وفي سياق جملة{واذكروا اسم الله عليه} واعتبارها شاملة لكل شيء حينما يراد أكله أورد ابن كثير أحاديث نبوية عديدة .منها ما ورد في بعض الكتب الخمسة .من ذلك حديث رواه الترمذي والإمام أحمد عن عائشة: ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأكل الطعام في ستة نفر من أصحابه ،فجاء أعرابي فأكله بلقمتين فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أما إنه لو كان ذكر اسم الله لكفاكم .فإذا أكل أحدكم طعاما فليذكر اسم الله ،فإن نسي أن يذكر اسم الله في أوله فليقل بسم الله أوله وآخره ) ( 1 ){[750]}وحديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي جاء فيه: ( إن الشيطان يستحل الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه ) ( 2 ){[751]}وحديث رواه الثلاثة أنفسهم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء ،وإذا دخل ولم يذكر اسم الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت فإذا لم يذكر اسم الله عند طعامه قال: أدركتم العشاء ) .وحديث رواه أبو داود جاء فيه: ( قال جماعة يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع .قال: فلعلكم تفترقون .قالوا: نعم ،قال: فاجتمعوا على طعامكم ،واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه ) ( 3 ){[752]} .
وفي الأحاديث تعليم وتأديب وتوجيه نحو الله في كل ظرف وشكر نعمته وابتغاء بركته .