سبب النّزول
ذكر المفسرون أسباباً عديدة لنزول هذه الآية ،وأكثر هذه الأسباب ملاءمة مع فحوى الآية هو: أنّ «زيد الخير » و«عدي بن حاتم » اللذين كانا من الصحابة المقّربين ،قدما على النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأخبراه بأنّ قومهما يصيدون بواسطة كلاب وصقور الصيد ،وإِنّ هذه الكلاب تصيد لهم الحيوانات الوحشية من ذوات اللحم الحلال ،وتأتي بالحيوان المصيد حياً في بعض الأحيان فيذبح ،وأحياناً أُخرى تأتي به وقد قتلته قبل وصولها إلى أصحابها دون أن يتاح لهم ذبحه ،وسألا النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن حكم الصيد والمقتول بواسطة كلاب الصيد وهل يعتبر ميتة وحراماً أم لا ؟...فنزلت الآية هذه وأجابت على سؤالهما{[978]} .
التّفسير
الحلال من الصيد:
أعقبت الآية الأخيرة آيتين سبق وأن تناولتا أحكاماً عن الحلال والحرام عن اللحوم ،وقد بيّنت هذه الآية نوعاً آخر من اللحوم أو الحيوانات التي يحل للإِنسان تناولها ،وجاءت على صيغة جواب لسؤال ذكرته الآية نفسها بقولها: ( يسألونك ماذا أحلّ لهم ...) .
فتأمر الآية النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم )أوّلابأن يخبرهم إِنّ كل ما كان طيباً وطاهراً فهو حلال لهم ،حيث تقول: ( قل أُحلّ لكم الطيبات ....) دالة على أنّ كل ما حرمه الإِسلام يعتبر من الخبائث غير الطاهرة ،وإِن القوانين الإِلهية لا تحرممطلقاًالموجودات الطاهرة التي خلقها الله لينتفع بها البشر ،وإِن الجهاز التشريعي يعمل دائماً بتنسيق تام مع الجهاز التكويني وفي كل مكان .
ثمّ تبيّن الآية أنواع الصيد الحلال ،فتشير إلى الصيد الذي تجلبه أو تصيده الحيوانات المدربة على الصيد ،فتؤكد بأنّه حلال ،بقولها: ( وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلّمونهنّ ممّا علمكم الله ){[979]} .
وعبارة جوارح مشتقة من المصدر «جرح » الذي يعني أحياناً «الكسب » وتارة يعني «الجرح » الذي يصاب به البدن ،ولذلك يطلق على الحيوانات المدرّبة على الصيد ،سواء كانت من الطيور أو من غيرها ،اسم «جارحة » وجمعها «جوارح » أي الحيوان الذي يجرح صيده ،أو بالمعنى الآخر الحيوان الذي يكسب لصاحبه ،وأمّا إِطلاق لفظة «الجوارح » على أعضاء الجسم فلأن الإِنسان يستطيع بواسطتها إِنجاز الأعمال أو الاكتساب .
وجملة ( وما علمتم من الجوارح ) تشمل كل الحيوانات المدرّبة على الصيد ،ولكن كلمة «مكلبين » التي تعني تدريب الكلاب للقيام بأعمال الصيد ،والمشتقة من مادة «كَلَب » أي الكلب ،تقيد هذه الجملة وتخصصها بكلاب الصيد ،ولذلك فإِنها لا تشمل الصيد بحيوانات غير هذه الكلاب مثل الصقور المدرّبة على الصيد .
ولذلك ذهب فقهاء الشيعة إلى تخصيص الصيد الحلال بما يصاد من قبل كلاب الصيد ،لكن جمعاً من علماء السنّة ومفسّريهم ذهبوا إلى جواز الكل وأعطوا تفسيراً واسعاً لعبارة «مكلبين » ولم يخصصوا ذلك بكلاب الصيد فقط .
إِلاّ أنّنا نرى أنّ المصدر الأساس لهذه الكلمة المشتقة إِنما يدل على أنّها مخصصة بكلاب الصيد فقط ،وبديهي أنّ الصيد الذي تجلبه حيوانات مدرّبة أُخرى ،يعتبر حلالا في حالة جلبه حيّاً وذبحه وفق الطريقة الشرعية .
أمّا عبارة ( تعلمونهنّ ممّا علمكم الله ) فإِنّها تشير إلى عدّة أُمور هي
1إِنّ تدريب مثل هذه الحيوانات يجب أن يستمر ،فلو نسيت ما تعلمته وقتلت حيواناً كما تفعله بعض الكلاب السائبة ،فلا يعتبر عند ذلك ما قتلته صيداً ،ولا يحل لحم هذا الحيوان المقتول في مثل هذه الحالة ،والدليل على هذا القول هو كون فعل «تعلمونهن » فعلا مضارعاً ،والفعل المضارع يدل على الحال والاستقبال .
2يجب أن يتمّ تدريب هذه الكلاب وفق الأصول الصحيحة التي تتلاءم مع مفهوم العبارة القرآنية ( ممّا علّمكم ...) .
إِنّ العلوم كلهاسواء كانت بسيطة أم معقدةمصدرها هو الله ،وإِنّ الإِنسان لا يملك بنفسه شيئاً ما لم يعلمه الله .
إِضافة إلى ما ذكر فإِنّ كلاب الصيد يجب أن تدرب بحيث تأتمر بأمر صاحبها ،أي تتحرك بأمره وتعود إِليه بأمره أيضاً .
وبديهي أنّ الحيوان الذي تصيده كلاب الصيد ،يجب أن يذبح وفق الطريقة الشرعية إِن جلب حيّاً ،وإِن مات الحيوان قبل دركه فلحمه حلال وإِن لم يذبح .
وأخيراً أشارت الآية الكريمة إلى شرطين آخرين من شروط تحليل مثل هذا النوع من الصيد .
أوّلهما: أن لا يأكل كلب الصيد من صيده شيئاً ،حيث قالت الآية: ( فكلوا مما أمسكن عليكم ...) .
وعلى هذا الأساس فإِن الكلاب لو أكلت من الصيد شيئاً قبل إِيصاله إلى صاحبها ،وتركت قسماً آخر منه ،فلا يحل لحم مثل هذا الصيد ويدخل ضمن حكم ( ما أكل السبع ) الذي ورد في الآية السابقة ،ومثل هذا الكلب الذي يأكل الصيد لا يعتبر في الحقيقة كلباً مدرباً ،كما لا يعتبر ما تركه من الصيد مصداقاً لعبارة ( ممّا أمسكن عليكم ) لأنّه في هذه الحالة يكون ( أي الكلب ) قد صاد لنفسه ( لكن بعض الفقهاء لم يروا في هذا الموضوع شرطاً ،مستندين إلى روايات وردت في مصادر الحديث وذكرتها كتب الفقه بالتفصيل ) .
ومجمل القول هو أن كلاب الصيد يجب أن تدرب بحيث لا تأكل من الصيد الذي تمسكه .
والأمر الثّاني: هو ضرورة ذكر اسم الله على الصيد بعد أن يتركه الكلب ،حيث قالت الآية: ( واذكروا اسم الله عليه ...) .
ولكي تضمن الآية رعاية الأحكام الإِلهيةهذهكلها ،أكّدت في الختام قائلة: ( واتقوا الله إِنّ الله سريع الحساب ) داعية إلى الخوف من الله العزيز القدير ،ومن حسابه السريع{[980]} .