الْآيَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ من كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هِيَ بِلْقِيسُ بِنْتُ شُرَحْبِيلَ مَلِكَةُ سَبَأٍ ، وَأُمُّهَا جِنِّيَّةٌ بِنْتُ أَرْبَعِينَ مَلِكًا . وَهَذَا أَمْرٌ تُنْكِرُهُ الْمُلْحِدَةُ . وَيَقُولُونَ : إنَّ الْجِنَّ لَا يَأْكُلُونَ ، وَلَا يَلِدُونَ وَكَذَبُوا لَعَنَهُمْ اللَّهُ أَجْمَعِينَ . ذَلِكَ صَحِيحٌ وَنِكَاحُهُمْ مَعَ الْإِنْسِ جَائِزٌ عَقْلًا . فَإِنْ صَحَّ نَقْلًا فَبِهَا وَنِعْمَتْ ، وَإِلَّا بَقَيْنَا عَلَى أَصْلِ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي سَبَأٍ : ( هُوَ رَجُلٌ وُلِدَ لَهُ عَشْرَةُ أَوْلَادٍ ، وَكَانَ لَهُمْ خَبَرٌ فَسَمَّى الْبَلَدَ بِاسْمِ الْقَبِيلَةِ ) ، أَوْ ذَكَرَ أَنَّهُ جَاءَ من الْقَبِيلَةِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَمَّى الْبَلَدَ بِاسْمِ الْقَبِيلَةِ .
رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيِّ ، قَالَ : أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَلَا أُقَاتِلُ مَنْ أَدْبَرَ من قَوْمِي بِمَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ ، فَأَذِنَ لِي فِي قِتَالِهِمْ وَأَمَرَنِي .
فَلَمَّا خَرَجْت من عِنْدِهِ سَأَلَ عَنِّي مَا فَعَلَ الْقَطِيفِيُّ ؟ فَأَخْبَرَ بِأَنِّي قَدْ سِرْت . قَالَ : فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِي فَرَدَّنِي ، فَأَتَيْته ، وَهُوَ فِي نَفَرٍ من أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ : اُدْعُ الْقَوْمَ ، فَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَاقْبَلْ مِنْهُ ، وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ فَلَا تَعْجَلْ حَتَّى أُحْدِثَ لَك .
وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي سَبَأٍ مَا أَنْزَلَ . فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ مَا سَبَأٌ ؟ أَرْضٌ أَوْ امْرَأَةٌ ؟ فَقَالَ : ( لَيْسَ بِأَرْضٍ وَلَا امْرَأَةٍ ، وَلَكِنَّهُ رَجُلٌ وَلَدَ عَشَرَةً من الْعَرَبِ فَتَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ ، وَتَشَاءَمَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ . فَأَمَّا الَّذِينَ تَشَاءَمُوا فَلَخْمُ وَجُذَامُ وَغَسَّانُ وَعَامِلَةُ . وَأَمَّا الَّذِينَ تَيَامَنُوا فَالْأَزْدُ ، وَالْأَشْعَرِيُّونَ ، وَحِمْيَرُ ، وَكِنْدَةُ ، وَمِذْحَجُ ، وَأَنْمَارٌ . فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ وَمَا أَنْمَارُ ؟ قَالَ : الَّذِينَ مِنْهُمْ خَثْعَمُ وَبُجَيْلَةُ ) .
وَرُوِيَ فِي هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ آخَرُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ كِسْرَى لَمَّا مَاتَ وَلَّى قَوْمُهُ بِنْتَهُ : ( لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً ) .
وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَكُونُ خَلِيفَةً ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ .
وَنُقِلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ إمَامِ الدِّينِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ قَاضِيَةً ؛ وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَنْهُ ؛ وَلَعَلَّهُ كَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا إنَّمَا تَقْضِي فِيمَا تَشْهَدُ فِيهِ ، وَلَيْسَ بِأَنْ تَكُونَ قَاضِيَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَلَا بِأَنْ يُكْتَبَ لَهَا مَنْشُورٌ بِأَنَّ فُلَانَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْحُكْمِ ، إلَّا فِي الدِّمَاءِ وَالنِّكَاحِ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَسَبِيلِ التَّحْكِيمِ أَوْ الِاسْتِبَانَةِ فِي الْقَضِيَّةِ الْوَاحِدَةِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً ) .
وَهَذَا هُوَ الظَّنُّ بِأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ جَرِيرٍ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَدَّمَ امْرَأَةً عَلَى حِسْبَةِ السُّوقِ ، وَلَمْ يَصِحَّ ؛ فَلَا تَلْتَفِتُوا إلَيْهِ ؛ فَإِنَّمَا هُوَ من دَسَائِسِ الْمُبْتَدِعَةِ فِي الْأَحَادِيثِ .
وَقَدْ تَنَاظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ الْمَالِكِيُّ الْأَشْعَرِي مَعَ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ طَرَارٍ شَيْخِ الشَّافِعِيَّةِ بِبَغْدَادَ فِي مَجْلِسِ السُّلْطَانِ الْأَعْظَمِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ ، فَمَا حَلَ وَنَصَرَ ابْنُ طَرَارٍ لِمَا يُنْسَبُ إلَى ابْنِ جَرِيرٍ ، عَلَى عَادَةِ الْقَوْمِ التَّجَادُلُ عَلَى الْمَذَاهِبِ ، وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا بِهَا اسْتِخْرَاجًا لِلْأَدِلَّةِ وَتَمَرُّنًا فِي الِاسْتِنْبَاطِ لِلْمَعَانِي ؛ فَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ طَرَارٍ : الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ يَجُوزُ أَنْ تَحْكُمَ أَنَّ الْغَرَضَ من الْأَحْكَامِ تَنْفِيذُ الْقَاضِي لَهَا ، وَسَمَاعُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا ، وَالْفَصْلُ بَيْنَ الْخُصُومِ فِيهَا ، وَذَلِكَ يُمْكِنُ من الْمَرْأَةِ ، كَإِمْكَانِهِ من الرَّجُلِ .
فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ ، وَنَقَضَ كَلَامَهُ بِالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى ؛ فَإِنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا حِفْظُ الثُّغُورِ ، وَتَدْبِيرُ الْأُمُورِ ، وَحِمَايَةُ الْبَيْضَةِ ، وَقَبْضُ الْخَرَاجِ ، وَرَدُّهُ عَلَى مُسْتَحِقِّيهِ ؛ وَذَلِكَ يَتَأَتَّى من الْمَرْأَةِ كَتَأَتِّيه من الرَّجُلِ .
فَقَالَ لَهُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ طَرَارٍ : هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الشَّرْعِ ، إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِهِ . فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ أَصْلُ الشَّرْعِ .
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ : هَذَا تَعْلِيلٌ لِلنَّقْضِ ، يُرِيدُ : وَالنَّقْضُ لَا يُعَلَّلُ . وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ قَوْلِ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَيْسَ كَلَامُ الشَّيْخَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِشَيْءٍ ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَتَأَتَّى مِنْهَا أَنْ تَبْرُزَ إلَى الْمَجَالِسِ ، وَلَا تُخَالِطَ الرِّجَالَ ، وَلَا تُفَاوِضَهُمْ مُفَاوَضَةَ النَّظِيرِ لِلنَّظِيرِ ، لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ فَتَاةً حَرُمَ النَّظَرُ إلَيْهَا وَكَلَامُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَجَالَّةً بَرْزَةً لَمْ يَجْمَعْهَا وَالرِّجَالَ مَجْلِسٌ تَزْدَحِمُ فِيهِ مَعَهُمْ ، وَتَكُونُ مَنْظَرَةً لَهُمْ ، وَلَمْ يُفْلِحْ قَطُّ مَنْ تَصَوَّرَ هَذَا ، وَلَا مَنْ اعْتَقَدَهُ .