الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ، فِي قَوْلِهِ : { إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } قَالَ : هُوَ الصَّبْرُ عَلَى فَجَائِعِ الدُّنْيَا وَأَحْزَانِهَا ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الصَّبْرَ من الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ من الْجَسَدِ .
قَالَ الْقَاضِي : الصَّبْرُ مَقَامٌ عَظِيمٌ من مَقَامَاتِ الدِّينِ ، وَهُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عَمَّا تَكْرَهُهُ من تَسْرِيحِ الْخَوَاطِرِ ، وَإِرْسَالِ اللِّسَانِ ، وَانْبِسَاطِ الْجَوَارِحِ عَلَى مَا يُخَالِفُ حَالَ الصَّبْرِ ، وَمَنْ الَّذِي يَسْتَطِيعُهُ ، فَمَا رُوِيَ أَنَّ أَحَدًا انْتَهَى إلَى مَنْزِلَةِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى صَبَرَ عَلَى عَظِيمِ الْبَلَاءِ عَنْ سُؤَالٍ كَشَفَهُ بِالدُّعَاءِ ، وَإِنَّمَا عَرَضَ حِينَ خَشِيَ عَلَى دِينِهِ لِضَعْفِ قَلْبِهِ عَنْ الْإِيمَانِ ، فَقَالَ : مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَعَلُوهُ فِي الْآثَارِ نِصْفَ الْإِيمَانِ ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ عَلَى قِسْمَيْنِ : مَأْمُورٌ وَمَزْجُورٌ ، فَالْمَأْمُورُ يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالْفِعْلِ ، وَالْمَزْجُورُ امْتِثَالُهُ بِالْكَفِّ وَالدَّعَةِ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ إلَيْهِ ، وَهُوَ الصَّبْرُ ، فَأَعْلَمَنَا رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّ ثَوَابَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مُقَدَّرٌ من حَسَنَةٍ إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ، وَخَبَّأَ قَدْرَ الصَّبْرِ مِنْهَا تَحْتَ عِلْمِهِ ، فَقَالَ : { إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
وَلَمَّا كَانَ الصَّوْمُ نَوْعًا من الصَّبْرِ حِينَ كَانَ كَفًّا عَنْ الشَّهَوَاتِ قَالَ تَعَالَى : { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي ، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ } . قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ : كُلُّ أَجْرٍ يُوزَنُ وَزْنًا ، وَيُكَالُ كَيْلًا إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ يُحْثَى حَثْيًا ، وَيُغْرَفُ غَرْفًا ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ : هُوَ الصَّبْرُ عَلَى فَجَائِعِ الدُّنْيَا وَأَحْزَانِهَا ؛ فَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ سَلَّمَ فِيمَا أَصَابَهُ ، وَتَرَكَ مَا نَهَى عَنْهُ فَلَا مِقْدَارَ لِأَجْرِهِ ، وَأَشَارَ بِالصَّوْمِ إلَى أَنَّهُ من ذَلِكَ الْبَابِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَمِيعَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .